أميركا من بوش إلى أوباما
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد السماك
بعد أن نجحت الولايات المتحدة والتحالف العسكري الدولي في حرب الخليج الأولى في إخراج صدام مهزوماً من الكويت، أطلق جورج بوش الأب عبارته الشهيرة: "لقد تمكنا من التخلص من عقدة فيتنام إلى الأبد". ومن أجل ذلك نظم استقبال تاريخي لقائد القوات العسكرية الجنرال نورمان شوارزكوف في نيويورك في عام 1991 يذكّر باستقبال القوات الأميركية العائدة من أوروبا بعد الانتصار في الحرب العالمية الثانية. فقد اشترك في الاستقبال حوالي خمسة ملايين أميركي انتشروا على طول 200 ميل تحت أقواس النصر ويافطات الترحيب.
استمرت حرب الخليج الأولى التي خاضها 675 ألف جندي من 28 دولة، ستة أسابيع فقط، ولم تكلف القوات الأميركية سوى 150 قتيلاً من الجنود.
كان بإمكان الولايات المتحدة أن تواصل الحرب لاحتلال العراق والتخلص من صدام، ولكنها لم تفعل. فبوش الأب ما كان يريد أن تتحول بلاده من محرر للكويت إلى محتل للعراق. وما كان يريد أن يغرق قواته في رمال الصحراء، بعد أن خرجت من مستنقعات فيتنام. كانت الولايات المتحدة تشعر بأنها تقود العالم، وأنها تقوده إلى النصر في إطار الشرعية الدولية، وقد عبّر عن هذا الشعور بوش الأب بإعلانه للمرة الأولى وجوب "إقامة نظام عالمي جديد بقيادة الولايات المتحدة". وشجعه على ذلك تهاوي الاتحاد السوفييتي السابق في ذلك الوقت، وتجاوب دول العالم مع القيادة الأميركية الجديدة.
ولكن هذه المشاعر عاشت عشرين شهراً فقط، إذ أطاحت الأزمة الاقتصادية بوش الأب، وقضت على طموحاته في دورة رئاسية ثانية، ولكنه عاش - بعد رئاسة كلينتون- حتى يرى كيف أن ابنه بوش الابن حوّل أحلامه الجميلة إلى كابوس بشع.
فعلى خلفية رد الفعل على جريمة 11 سبتمبر 2011، زجّ بوش بالولايات المتحدة في حربين جديدتين، في أفغانستان (2001) والعراق (2003).
وقد نجح أوباما في إخراج القوات الأميركية من العراق، ولكنه لم يستطع إزالة مفاعيل الحرب غير المبررة وغير الأخلاقية، كما وصفها البابا الراحل يوحنا بولس الثاني. ومن أسوأ هذه المفاعيل ضرب النسيج الوطني العراقي وتمزيقه دينياً ومذهبياً وعنصرياً، وتحويل العراق إلى خندق أمامي للتطلعات الإيرانية في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط.
لقد قام بوش الابن بما لم يقم به - بل بما رفض- أن يقوم به بوش الأب، وهو احتلال العراق، فقد سوّلت له الأنفس الشريرة للمحافظين الجدد الموالين لإسرائيل وللحركة الصهيونية، تدمير العراق "انتقاماً من نبوخذ نصر الذي سبى اليهود إلى بابل" كما ردد ذلك كهنة الحركة المسيحانية الصهيونية في الولايات المتحدة. وبذلك فرط عقد التحالف الدولي الذي تجمّع حول رئاسة والده. وذهب في تطرفه وصلفه إلى حد التمرد على الشرعية الدولية. فجعل من بلاده قوة احتلال -لا تحرير- وأداة تمزيق لا تجميع. حتى ساءت سمعته وسمعة بلاده في العالم. وهكذا أطاح المكاسب المعنوية التي حققها والده، ومن أهمها قيادة الولايات المتحدة للنظام العالمي الجديد. لقد أهدر أكثر من تريليون دولار في حرب عبثية أودت بحياة عدد كبير جداً من الناس في العراق، ووضع بذلك بلاده على حافة انهيار اقتصادي وأخلاقي لا تزال تعاني منه حتى الآن.
لقد أعادت حرب الخليج الأولى الثقة للقوات الأميركية بنفسها، وبسلاحها المتطور، وبقيادتها العسكرية المحترفة. ولذلك كان الاستقبال التاريخي في نيويورك في عام 1991. أما حرب الخليج الثانية، فإن صور قوافل توابيت الجنود القتلى صدعت هذه الثقة من جديد، حتى أن الإدارة الأميركية كانت تحرص على حجب هذه الصور عن الإعلام للمحافظة على معنويات الرأي العام! فالخسائر البشرية الأميركية التي زادت على الخمسة آلاف، أحيت من جديد العقدة الفيتنامية.
ولذلك صرف أوباما السنوات الأربع من دورته الرئاسية الأولى لمعالجة تداعيات حربيْ بوش على العراق وأفغانستان. وإذا كان قد نجح في معالجة بعض الجوانب العسكرية، فإنه لا يزال بعيداً عن معالجة الجوانب المالية بتجلياتها الاجتماعية والاقتصادية.
ويحتاج أوباما إلى السنوات الأربع التالية من دورته الرئاسية الثانية لمعالجة تداعيات حرب بوش على أفغانستان. فبعد سحب الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، خاصة القوات الفرنسية والألمانية والدانماركية، قواتها، فإن أمله في سحب القوات الأميركية في عام 2014 يواجه الكثير من التحديات. ومع ذلك فان السؤال الذي لا يزال يفرض نفسه حتى على البيت الأبيض هو: أي أفغانستان ستترك الولايات المتحدة بعد هذا الانسحاب؟ بل أي باكستان ستخلف وراءها؟
لقد كانت هذه الدولة النووية حليفاً ورصيداً استراتيجياً للولايات المتحدة في وسط آسيا، ولكنها تحولت الآن إلى عبء أمني وسياسي خطير. وكانت أفغانستان في قبضة الهيمنة الأميركية، ولكنها تحولت الآن إلى رأس رمح بيد حركة "طالبان"؟
لقد سقط الحل العسكري، ولم يبق بيد الولايات المتحدة سوى الحل التفاوضي حتى مع "طالبان".. وبشروطها أيضاً، وهو أمر يعيد إلى الأذهان التفاوض الذي أكرهت الولايات المتحدة عليه مع حركة "الفيتكونج" الفيتنامية بعد الانسحاب المذل للقوات الأميركية من سايجون.
في 27 ديسمبر الماضي توفي الجنرال شوارزكوف الذي حرر الولايات المتحدة بانتصاره في حرب الخليج الأولى من عقدة فيتنام. وفي الوقت ذاته تكشفت الفضائح الجنسية للجنرال بترايوس، قائد القوات الأميركية في أفغانستان (قبل أن يعين رئيساً لجهاز الاستخبارات المركزية، السي.آي.إيه).
لقد انتقلت الولايات المتحدة من بوش الأب إلى بوش الابن. ومن الجنرال شوارزكوف إلى الجنرال بترايوس. ويترافق هذا الانتقال المفجع مع تحولها من أغنى دولة إلى أكثر دولة مدينة في العالم.
لقد تغيرت المعادلات الدولية رأساً على عقب منذ أن ارتكب بوش الابن أخطاءه الاستراتيجية الفادحة في أفغانستان والعراق. فالولايات المتحدة التي كانت تتفرج بتشفٍّ على الاتحاد السوفييتي وهو يتهاوى بعد انتهاء الحرب الباردة، تقف اليوم مذعورة أمام النمو المتسارع للصين اقتصادياً وعسكرياً. وبعد أن كانت تتزاحم دول كبرى، مثل اليابان وكندا وأستراليا ودول أوروبا الغربية على استرضائها والتعاون معها عسكرياً واقتصادياً، تفرض هذه الدول شروطاً تعجيزية أحياناً، للتجاوب حتى مع بعض مطالبها.
وهذا الواقع يشكّل أهم تحد يواجهه اوباما في دورته الرئاسية الثانية. فهل سيتمكن من التغلب عليه؟ وكيف؟