لبنان ورموزه قبل خمسين سنة!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
سليم نصار
في مثل يوم أمس قبل خمسين سنة (15-3-1963) ضربت عاصفة ثلجية طائرة اميل البستاني فور إقلاعها من مطار بيروت، الأمر الذي أدى الى انشطارها وغرقها في البحر قبالة مبنى شركة الـ "كات." ومات غرقاً في تلك الحادثة المأسوية البستاني والدكتور نمر طوقان والمهندس مروان خرطبيل وربّان الطائرة جون اوغلفي.
وصدف مساء اليوم السابق للحادث، أن لبّى اميل البستاني وزوجته لورا، دعوةَ رئيس مجلس إدارة "كازينو لبنان" فيكتور موسى وعقيلته مي، وعندما اعتذر عن الانصراف باكراً، لاضطراره الى السفر عند الفجر بغرض حضور اجتماع مجلس إدارة "البنك العربي" في عمّان، ردَّد على مسمعه أحد المدعوين فجأة عبارة لعرّاف روماني كان حذر يوليوس قيصر من شؤم تاريخ 15 آذار (مارس)، وهي بالإنكليزية:
Beware the ides of March
لكن يوليوس قيصر -كما هو معروف تاريخياً- تجاهَلَ تحذير العرّاف، وذهب إلى مجلس الشيوخ حيث قضى طعناً على أيدي خصومه سنة 44 قبل الميلاد.
وعندما سمع اميل البستاني التحذير في منزل فيكتور موسى هزّ رأسه ساخراً وقال إنه يطمئن الى قيادة الكابتن الاسكوتلندي جون اوغفلي، وإلى اختباراته السابقة، كونه خدم في سلاح الجو البريطاني.
يوم 15 آذار (مارس) 1963، كانت الغيوم السوداء فوق بيروت تنشر طبقة من الجليد الكثيف أجبر موظف برج المراقبة على تجميد الرحلات الصباحية. ولما رأى مدير المطار إدمون غصن اميل البستاني هرع صوبه ليبلغه عن سوء الأحوال الجوية، وينصحه بضرورة تأجيل سفره.
وبعد وصول طوقان وخرطبيل الى المطار، شعر البستاني بأنه يتحمل مسؤولية سفرهما، لأنه شجعهما على مرافقته، لذلك صمم على الرجوع إلى بيروت في حال واجهت الطائرة طبقة جليدية يصعب تجاوزها. ولكن العاصفة المخيفة لم تمنحه فرصة الاختيار، وإنما انقضّت على الطائرة لتشطرها الى نصفين، وسقطت بركابها الأربعة في البحر الهائج قبالة مكاتب شركة الـ "كات" في منطقة الصيفي.
وبعد انقضاء أكثر من أسبوع أمضاه الغطاسون في البحث عن الحطام، اكتشفوا أن الأنواء العاتية لم تترك أثراً للطائرة أو لركابها، وآخر ما طفا على وجه البحر بعد انقشاع الزوبعة، كان القلبق الذي يعتمره إميل، وهو مصنوع من الاسترخان، أي فرو الحملان الصغيرة التي تتميز بصوفها المجعد، وهو كان اشتراه من معرض الأشغال اليدوية في قصر الضيافة في كراتشي. وكان ذلك في آخر شهر كانون الثاني (يناير) سنة 1963 عندما لبّى رئيس وزراء لبنان في حينه رشيد كرامي دعوة الرئيس أيوب خان.
الزوجة لورا والابنة الوحيدة ميرنا، لم تعثرا على أي دليل يستحق أن تُفتح له مقبرة العائلة في بلدة الدبيّة في منطقة الشوف، وكان إميل قد أوصى ببناء قبر يُدفن فيه أفراد عائلته في القرية التي وُلِد فيها، فحققت له حادثة الطائرة تلك الرغبة الدفينة.
سنة 1994 صدرت عن "دار كوارتيت" في لندن مذكرات أرملة اميل البستاني لورا، وقدّم لتلك المذكرات محمد حسنين هيكل، راوياً عن سيرة البستاني ما تركه من أثر طيب على جمال عبدالناصر، قائلاً إن مصوراً حربياً من السويد نجح في التقاط عدة أفلام أثناء حرب السويس 1956 تمنى الرئيس المصري لو أنها تُنقل إلى مجلس العموم البريطاني، ذلك أنها كانت تمثل أفضل شاهد على الجرائم والبشاعات التي اقترفتها القوات البريطانية في حرب العدوان الثلاثي.
واتصل هيكل بإميل البستاني في بيروت، ليجده على أتم الاستعداد لتنفيذ تلك المهمة. وعلى الفور كلّف مصطفى أمين (كان مرضيّاً عنه في حينه) بنقل الصور إلى بيروت على متن طائرة مدنية. وتفادياً لمراقبة الرادارات الإسرائيلية، انتقلت الطائرة إلى الخرطوم فجدة وعمّان قبل أن تحط في مطار بيروت.
بعد أقل من 24 ساعة، كانت صور مجازر بورسعيد موجودة أمام كل عضو من أعضاء مجلس العموم، وكذلك نقلها إميل إلى ممثلي الجمعية العامة في الأمم المتحدة. وقد أحدثت تلك الخدمة الوطنية الصدى السياسي المطلوب ضد السر أنطوني آيدن ووزير خارجيته سيلوين لويد. وقد افتتح حملة المعارضة الوزير المستقيل أنطوني ناتنغ.
وفي كثير من المناسبات كان عبدالناصر يُضطر للدفاع عن مواقف اميل البستاني، معتبراً أنه يقوم بتدمير الهيكل الاستعماري البريطاني من الداخل.
وهذا ما أثبتته تقارير سفراء بريطانيا في الخليج والعراق والسودان ولبنان والأردن، بعد مرور 25 سنة على الاحتفاظ بها في أدراج السرية. وقد نشرت الصحف العربية نصوص رسائل التحذير التي وجهها السفراء، مع التشكيك في صداقة البستاني واتهامه بأنه يحرّض على بث روح العداء ضد الإنكليز.
استند الديبلوماسيون في استنتاجاتهم إلى نصوص كتابَيْن أصدرهما البستاني باللغتين العربية والإنكليزية، الأول كان بعنوان "شكوك وديناميت" والثاني بعنوان "زحف العروبة"، وحمل الاثنان بذور القومية العربية، مع مراجعة التاريخ المعاصر للقضية المركزية، أي قضية فلسطين.
ومن الحكايات الطريفة، التي تدل على تعلّق اميل البستاني بجذوره العربية، حرصه على مهاجمة الصهيونية في مختلف الخطب التي كان يلقيها. وحدث عقب اغتيال الوسيط الدولي الكونت برنادوت على أيدي جماعة إسحق شامير، أن توجه البستاني إلى ستوكهولم لحضور الجنازة وقد ارتدى للمناسبة دشداشة بيضاء، لجذب الانتباه والإعلان عن الحضور العربي. ثم أرسل أكبر إكليل ليوضع على مدفن الوسيط الذي قتله انحيازه إلى الحق العربي، وإصراره على ترسيم حدود فلسطين.
ولمّا عاد إلى بيروت انتقده الرئيس بشارة الخوري بسبب حضوره الجنازة من دون صفة رسمية. وردّ عليه البستاني بالقول إن حضوره كان مدعوماً من الشعب العربي، ومن عائلات عشرين ألف موظف كانت الـ "كات" تضمهم تحت مظلتها.
سنة 1967، أصدر الكاتب البريطاني ومراسل "تايم-لايف" في الشرق الأوسط ديسموند ستيورات، كتاباً بعنوان" "يتيم مع دولاب"، يروي فيه سيرة حياة اميل البستاني. وخلص المؤلف الى استنتاج مفاده أن طائرة اميل البستاني تعرضت للتفجير في الجو. وبما أن حطام الطائرة ظل مطموراً تحت البحر، فإن الدليل العملي لا يمكن الحصول عليه.
وعليه، استند ستيوارت في تحليله الأول إلى رحلة البستاني لباكستان قبل فترة قصيرة من غرقه واختفائه. ووفق زعمه، فإن شركة "كات" كانت تتنافس مع شركة أميركية لبناء مفاعل نووي للأغراض السلمية. وبما أن واشنطن كانت حريصة على ضبط الناحية السلمية، فقد عارضت طموحات علي بوتو، الذي فاوض بيكين ووعدها بتشكيل تحالف في حال ساعدته على إنتاج قنبلة نووية. وربما استولى هذا الكابوس على هواجسه عقب الهزيمة التي ألحقتها الهند ببلاده، الأمر الذي اضطره إلى تمزيق خطابه في الأمم المتحدة. ولما عجزت الولايات المتحدة عن ردع علي بوتو، ألَّبَت عليه خصمه الجنرال ضياء الحق، الذي سجنه ثم أمر بإعدامه. ولكن ضياء الحق لم يسلَم من الانتقام، بدليل أنه تعرض لتفجير طائرته واختفاء جسده الممزق.
الشاهد الثاني على اغتيال اميل البستاني كان سلوك شخصية اميركية معروفة جداً في منطقة الشرق الأوسط. وقد التقت هذه الشخصية بالبستاني عدة مرات، ووعدته بمرافقته إلى دمشق وعمّان، ومن ثم إلى القاهرة. وقبل موعد الإقلاع بقليل، اعتذرت تلك الشخصية عن السفر من دون أن تقدّم السبب المقنع. ويُستدل من نشاط تلك الشخصية أنها تخلصت من طموحات البستاني في باكستان... مثلما تخلصت الولايات المتحدة من علي بوتو بواسطة ضياء الحق.
في المقدمة التي كتبها وزير خارجية بريطانيا، جورج براون، اعترف بأن شخصية اميل البستاني هي من النوع الذي لا يُعوَّض ولا يتكرر. ولكنه لم يوافق على الاستنتاج الذي وصل اليه ستيوارت، من أن البستاني ذهب ضحية التآمر الأميركي... وليس ضحية العاصفة الجليدية!
وبين الأمور التي يسجلها ستيوارت في قائمة المحاذير، ما كان يطمح البستاني إلى تحقيقه أسوة بصديقه الرئيس كميل شمعون. وفي هذا، سمعه مرة يقول: كنت أنتمي الى الطائفة البروتستانتية لأكثر من أربعين سنة، ولا أذكر أنني حصلت على أي امتيازات، وعندما صرت مارونياً، انتُخِبتُ نائباً خلال ثلاثة أشهر.
وبين الوقائع التي تذكرها زوجته لورا في كتابها، ما يدل على التزام الشفافية، وضرورة خلق المناخات السياسية الصالحة لتأمين الفوز. قالت إن اميل فوجئ بوصول شقيقه سامي من بغداد كي يشارك في انتخاباته النيابية. ولما رآه سأله عن الجهة التي سمحت له بترك "الورشة" في العراق. وارتبك سامي وهو يقول له إن "الدافع كان ينحصر في تأمين فوزك"!
وأجابه اميل بصوت صارم: إذا كان نجاحي متوقفاً على صوتك، فأنا لا أريده. تفضل، ارجع الى العراق.
وتعلق لورا التي كانت شاهدة على هذه الواقعة، بأن زوجها لم يكن يخلط بين العمل والسياسة!
وفي الحديث عن الجانب السياسي من حياة اميل البستاني، يقول ستيوارت إنه كان مطمئناً إلى انتخابه في دورة 1964 رئيساً للجمهورية. وقد عزّز هذا الاطمئنان في نفسه الكلام الإيجابي الذي نقله زوار عبدالناصر عنه. ومنعاً لدخول لبنان تحت المظلة الناصرية، فإن "الشخصية الأميركية" حرصت على إبقاء لبنان في المحور الغربي. ولم يكن هذا الهدف مستساغاً إلا إذا غُيِّب اميل البستاني.
في خريف 1995 طلب جميل وفا من ميرنا البستاني تدبيج مقالة عن والدها تصلح للنشر في مجلة "لايف-ستايل" التي كانت تصدرها شهرياً شركة "يونيتاغ" لفنادق "انتركونتيننتال".
وكتبت تحت عنوان: "رجل بمليون رجل" لخّصت فيه طريقة حياته، وتنظيم أعماله، والمشاريع الكبرى التي حققها في آسيا وأفريقيا والخليج العربي. ومن خلال تلك المشاريع قام بتطوير تلك المنطقة الواعدة، بحيث إنه كان يشرف على تقدمها، ويشارك في بناء مدارسها ومستشفياتها.
وذكرت ميرنا في المقالة أن جدتها اختارت له اسم "إميل" لشدّة إعجابها بالكاتب الفرنسي اميل زولا الذي عُرف، من خلال كتبه، بأنه نصير للمظلومين والمضطهدين.
بقي أن نقول إن وفاة اميل البستاني الغامضة تركت، بعد خمسين سنة، للكتّاب والمحللين، أسئلة محيّرة يصعب أن نجد أجوبتها حتى عند "أغاثا كريستي"!