قبل أن تتحول «المرأة الحديدية» إلى رماد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
سليم نصار
يوم الأربعاء الماضي وجهت المملكة المتحدة تحية أخيرة إلى مارغريت ثاتشر بعدما أثار موتها جدلاً سياسياً وإعلامياً حول أهمية دورها وطبيعة مراسم الدفن التي خُصصت لتكريمها.
حكومة المحافظين، برئاسة ديفيد كامرون، أقامت لها جنازة رسمية تماماً كالجنازة الرسمية التي أقيمت للملكة الأم عام 2002 وللأميرة ديانا. في حين شنت صحيفة "دايلي ميل" حملة إعلامية واسعة مطالبة بإجراء مراسم دفن وطنية، تلك التي يخصّ بها البروتوكول البريطاني الصارم الملوك والشخصيات المرموقة ذات التاريخ الحافل بالمآثر الكبرى من طراز: رئيس الوزراء غلادستون ونظيره بالمرستون وقاهر نابليون نيلسون والعالم السير إسحق نيوتن ومحطم النازية السير ونستون تشرشل.
من الناحية العملية هناك فرق بسيط يميّز الجنازة الوطنية عن الجنازة الرسمية. والفرق، كما حددته دائرة المراسم الملكية، هو أن قرار إقامة الجنازة الوطنية يجب أن يخضع لتصويت البرلمان وموافقته.
وبما أن الشعب البريطاني منقسم حول تقويم دور البارونة ثاتشر، وما إذا كانت قائدة عظيمة تستحق أن تُكرَّم بجنازة وطنية... أم إنها في نظر حزب العمال والحركات النقابية ليست أكثر من رئيسة وزراء عادية متهمة بإقفال مناجم الفحم الحجري وتشريد ألوف الشغيلة.
إضافة الى هذا، فإن الجنازة الوطنية تستمر عادة ثلاثة أيام. وخلال هذه المدة تُسجّى الجثة في نعش مكشوف وتوضع في قاعة "وستمنستر" بحيث يكون بإمكان المشيعين مشاهدتها. وذكرت الصحف أن بريطانيا لم تشهد في تاريخها القديم والحديث، طابوراً في حجم الطابور الذي تجمع في صف طويل جداً لإلقاء نظرة الوداع على جثة تشرشل، منقذ البلاد من سيطرة هتلر.
ومن بين أهم الذين رفضوا التكريم على مستوى الجنازة الوطنية كان رئيس الوزراء بنيامين دزرائيلي الذي كتب في وصيته ضرورة احترام رغبته.
وهذا ما فعلته عائلة أول وأشهر ممرضة في التاريخ فلورانس نايتنغيل، إذ طلبت الاكتفاء بجنازة بسيطة اقتصر الحضور فيها على الأهل والأصدقاء.
أجمَعَ المراقبون على القول إن جنازة ثاتشر كانت أعظم جنازة لسياسي بريطاني منذ الجنازة الوطنية التي نظمت لتشرشل عام 1965. مع العلم أنها أوصت بإجراء جنازة رسمية كاملة تنتهي بإحراق جثمانها في مراسم خاصة.
شارك في مراسم التشييع رئيس الوزراء المحافظ ديفيد كامرون إلى جانب شخصيات أجنبية بينها: وزير خارجية الرئيس ريغان جورج شولتز ووزير خارجية نيكسون هنري كيسنجر ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو. واكتفت الدول العربية بحضور سفرائها المعتمدين. وقد عبّر عدد من الوزراء البريطانيين عن احتجاجهم لأن الرئيس الأميركي باراك أوباما اكتفى بمديح "المرأة الحديدية،" ولكنه أحجمَ عن إرسال وزير من إدارته. وقيل، في تبرير ذلك القصور، إن الحدث كان بريطانياً صرفاً... وإن ضحايا متفجرات بوسطن صرفوه عن القيام بالواجب نحو سيدة عُرِفت بعلاقاتها الوثيقة مع الرئيس رونالد ريغان.
وقد كوّنت ثاتشر مع ريغان علاقات سياسية وثيقة خلال الحرب الباردة. كما أيّدت الرئيس جورج بوش الأب في حرب تحرير الكويت عام 1991. وكانت أول مَنْ راهن على الزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف. من مظاهر التكريم الاستثنائي أن الحكومة أمرت بتوقيف ساعة "بيغ بن" طوال فترة الجنازة كتعبير عن وقوف الزمن في بريطانيا لأن شخصية استثنائية غابت من الوجود.
وقد تكررت هذه العملية التي استُخدِمَت أول مرة أثناء جنازة تشرشل كاعتراف بجميله لأنه أنقذ البلاد. وربما استوحى ديفيد كامرون تعليقه من ذلك الوصف، لأنه تحدث عن ثاتشر كزعيمة للحزب... وكمنقذة لبريطانيا. ووفق رأيه، فإن "المرأة الحديدية" فازت بثلاث معارك انتخابية، وغيّرت وجه المجتمع تغييراً أساسياً.
و"المرأة الحديدية" لقب أطلقته عليها صحيفة تابعة للجيش السوفياتي، ولكن ثاتشر أحبته. وحدث عندما اصطحبها كامرون لمشاهدة التمثال الذي أقيم لها، أن سألته عن المادة المصنوع منها، فأجابها: من البرونز. وابتسمت معترضة وقالت: يا ليته صُنِع من الحديد.
ردود الفعل على نبأ وفاة ثاتشر لم تكن متجانسة في المدن البريطانية، ذلك أن مظاهر الحزن التي هيمنت على شوارع لندن، قابلتها في مدن أخرى مظاهر الفرح والابتهاج لأن "الساحرة" ماتت. وقد احتفل الشبان في غلاسغو وبريستول وليفربول ونيوكاسل ومانشستر، معربين عن غبطتهم بوفاة المرأة التي أقفلت مناجم الفحم الحجري وقلّصت نفوذ نقابات العمّال واعتبرت نشاط الجيش الجمهوري الإرلندي جزءاً من الإرهاب العالمي.
ومع أن قادة حزب العمّال تظاهروا بالحزن، إلا أنهم استغلوا وفاة ثاتشر للتذكير بقراراتها الصارمة ضد العمال والنقابات. وقد اتهمتهم صحف المحافظين بتحريض عائلات عمال المناجم على انتقاد الحكومة بسبب تكاليف الجنازة (عشرة ملايين جنيه) كذلك كشفت هذه الصحف عن وقوف حزب العمال وراء "عريضة" جمعية مناجم "دورهام" الموقعة من 14 ألف شخص.
ومع أن توني بلير أنهى في عهده مسألة إرلندا الشمالية بواسطة السيناتور جورج ميتشل، إلا أن غاري أدامز، رئيس منظمة شين فين، وجد الفرصة مناسبة للتذكير بمحاولة اغتيال ثاتشر عام 1984. وكان ذلك خلال مؤتمر "حزب المحافظين" في مدينة برايتون. وقد وُضِعت المتفجرة تحت سرير رئيسة الحزب في فندق "غراند هوتيل"، بهدف اغتيالها. ولما انفجرت، كانت مسز ثاتشر تراجع الخطاب الذي ستلقيه صباح اليوم التالي. لهذا السبب نجت من الموت بأعجوبة، لأن المتفجرة هدمت كل الجزء الشرقي من الفندق حيث تقع غرفة رئيسة الوزراء.
الصحف البريطانية وظفت هذه الواقعة لتتحدث عن طبائع رئيسة الوزراء، وتقول إن ساعات نومها لا تزيد على الأربع ساعات فقط. وقد روَت عبر مقابلة تلفزيونية أنها كانت تحرص على إعداد وجبة الفطور لزوجها دنيس قبل أن تتوجه إلى 10 داوننغ ستريت. وكثيراً ما كانت تصل إلى مقر رئاسة الحكومة قبل جميع الوزراء. وحدث أثناء فترة حكمها الطويلة (من 1979 إلى 1990) أن طردت أكثر من سبعة وزراء بسبب إهمالهم أو تأخرهم في الوصول إلى المكاتب. وكانت تنتقدهم بشدة لاعتقادها أن التقاعس عن القيام بالواجب لا يختلف عن اقتراف الخطيئة. وكانت تُفاخر بأنها "مدمنة عمل"، وأنها اكتسبت هذه الميزة من والدها ألفرد روبرتس الذي أوصاها بممارسة ثلاثة مبادئ: أولاً - المواظبة على العمل بجهد ومحبة لأن طريق النجاح معبدة بهاتين الصفتَيْن. ثانياً - الاهتمام بالخدمات الاجتماعية والانخراط في الجمعيات الخيرية والإنسانية. ثالثاً - الحرص على معرفة الخيط الرفيع الذي يفصل بين الخير والشر، وإيلاء القضايا المعنوية الاهتمام الخاص بحيث لا يغرق المرء في أوحال العصر.
في ظل المبادئ الصارمة التي طوّقها بها والدها ألفرد روبرتس، صاحب مخزن البقالة في مدينة "غارنثام"، نجحت مارغريت في قيادة حزب المحافظين إلى الفوز في ثلاث دورات انتخايبة. وسجلت أطول فترة متواصلة يقضيها رئيس وزراء بريطاني منذ أكثر من 150 سنة.
حول سجلها السياسي وإنجازاتها الراهنة، أجرت صحيفة "الغارديان" استطلاعاً للرأي أفاد بأن 50 في المئة من الشعب يعتبرها حققت أعمالاً إيجابية، مقابل 34 في المئة يعتقدون أنها فشلت على مختلف الأصعدة.
وينحصر أصحاب رأي الأقلية بعمال مناجم الفحم الذين قاموا قبل سنوات عدة بدفن قطعة من الفحم تحت شاهد رخامي حُفِر عليه العبارة الآتية: هنا يرقد الجندي المجهول من عمال المناجم.
ويعوِّل رئيس حزب العمال، إد ميليباند، على هذه الشريحة الكبيرة من الناخبين، واعداً بإعادة فتح المناجم المقفلة بعدما ارتفع سعر "الذهب الأسود" بصورة مذهلة.
عندما أعلنت مسز ثاتشر حربها على الأرجنتين عام 1982، أجرت صحيفة "الدايلي تلغراف" مقارنة بينها وبين رئيسة وزراء الهند أنديرا غاندي التي كسبت الحرب ضد باكستان عام 1971.
وعلقت الصحيفة على مواقع التطابق بين السيدتين المحاربتين، تقول إن أنديرا انتصرت على تحديات باكستان، ولكنها فشلت في تقويم إعوجاج نجلها "رجيب"، وهذا ما قالته الصحيفة عن "المرأة الحديدية" التي ربحت الحرب ضد الأرجنتين، ولكنها خسرت حربها العائلية مع نجلها مارك وكريمتها كارول.
وقد استثمرت ثاتشر انتصارها العسكري لتشكيل حكومة جديدة أخرجت منها الوزيرين كين كلارك وإيان غيلمور وغيرهما من المشككين بالنصر والمتخوفين من تكرار حرب السويس. وقد سافرت إلى "بورت ستانلي" عقب انسحاب القوات الأرجنتينية، حيث استقبلها الحاكم السير راكس هانت بلافتات رفعها الجنود وقد كتِبَ عليها: الإمبراطورية... تضرب من جديد. في مذكراتها لم تنسَ ثاتشر أن تكتب أن التاريخ سيسجل لها انتشار عقيدتها "الثاتشرية" التي وصفتها بأنها الدواء الناجع لنكسات حزب العمال. واتهمت خصومها في اتحاد عمال المناجم والنقابات الاشتراكية بأنهم صنعوا من بريطانيا "رجل أوروبا المريض". وعندما وصلت إلى الحكم كانت البلاد مدمَّرة اقتصادياً وجعلت منها قوة عالمية.
واعترف ميخائيل غورباتشوف في برقية التعزية بأن ابنة البقّال، التي منعت انهيار بلادها، ساعدته مع الرئيس الأميركي رونالد ريغان، على إنهاء الحرب الباردة.
وقال الرئيس أوباما في برقيته: لقد خسر العالم بموتها واحدة من بطلات الحرية. كذلك خسرت الولايات المتحدة صديقة وحليفة.
ولكن هذا كله لم يمنع المعلقين من الاعتراف بأن المرأة المقبلة من صفوف الطبقة المهمّشة كان لها الفضل الأكبر في إنقاذ حزب المحافظين. كذلك حاربت في الوقت ذاته قطاعاً كاملاً من طبقة العمال في شمال بريطانيا وويلز واسكتلندا يوم أقفلت مناجم الفحم وقضت على شركات صناعية كاملة. لهذا، حرمت الملايين من مصدر عيشهم.
وفي مذكراتها أيضاً تعترف بأنها تجاهلت القصر الملكي وتوجيهات الكنيسة، وأسست طبقة وسطى جديدة تتميز بالطموح والمبادرات الفردية. وتضم هذه الطبقة كتلاً من رأسمالية السوق الحرة.
في وصفه أهمية دورها، قال رئيس الوزراء ديفيد كامرون، إنها وليدة وضع التقت فيه إرادة التاريخ مع إرادة التوقيت. وقد شرحت صحيفة "التايمز" في افتتاحيتها هذه الأحجية بالقول: جاءت مارغريت ثاتشر إلى الحكم في نهاية مرحلة كانت بريطانيا تعاني من فقدان الثقة بالنفس. وقد أعادت لها هذه الثقة بواسطة الخيارات الصحيحة.
بعد انتخابها رئيسة للوزراء في أيار (مايو) 1979، وقفت مارغريت ثاتشر أمام باب 10 داوننغ ستريت لتقول للإعلاميين: حيث توجد الفوضى، يجب أن يحلّ الاستقرار... وحيث يوجد الخطأ يجب أن نبحث عن الحقيقة... وحيث تنتشر الشكوك يجب أن نزرع الإيمان... وحيث يخيّم اليأس يجب أن نقدم الأمل والرجاء.
وهذا باختصار هو "مانيفستو" مارغريت ثاتشر...
التعليقات
زرع الإيمان
أفكار بنت عصرها -حدث عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه بمنع زوجته عاتكة وكانت شديدة الجمال من الصلاة فى المسجد ، وكان منزله ملاصقًا له قالت له: أتنهاني ؟ فقال : لا أنهاك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : لا تمنعوا إماءَ الله مساجدَ الله.