الفضائيات العربية.. بين الحياد والتوجيه
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
فاضل العماني
ليس بالضرورة، أن يُمارس الاعلام بمختلف الوانه وأساليبه الحيادية كمبدأ في اهدافه أو استراتيجية في نشاطاته. تلك هي الحقيقة التي اثبتتها الوقائع والأحداث والتجارب، وذلك هو الواقع الذي تتحرك وفقه المؤسسات الإعلامية ولنأخذ القنوات الفضائية كمثال على ذلك
يبدو أن مصطلح "الحيادية" مازال يتعرض للكثير من الاختبارات والتحديات، بل والشكوك والاتهامات، خاصة حينما يتعلق الامر بالإعلام بكل أشكاله ومستوياته، لاسيما الاعلام الجديد الذي أكمل عقده الثاني، منهياً حقبة إعلامية تقليدية استمرت لعقود طويلة، ساهمت في صناعة الكثير من التحولات والمتغيرات الكبرى في مسيرة الحضارة البشرية، ولكنها استنفدت واستهلكت، بل اصبحت عبئاً ثقيلاً على هذه المرحلة الجديدة من عمر العالم، والتي بدأت في التشكل منذ ثمانينيات القرن الماضي، تلك الفترة الزمنية المضطربة التي شهدت، ومازالت، الكثير من الصراعات والكوارث والانعطافات التاريخية الاستثنائية. وسط كل تلك الظروف الحرجة التي مر بها العالم خلال الاربعة عقود الماضية، لم تتعرض قيمة حضارية مهمة كما تعرضت ظاهرة "الحيادية" للكثير من الاختبارات والتحديات.
الحيادية، كقيمة إنسانية ووصفة سحرية، أُشبعت كتابة ودراسة وبحثاً، بل وتجربة وتقييماً وقياساً، ولكنها كانت في كل مرة تغيب - أو تُغيب - عن الكثير من الافكار والمواقف والأحداث.
هناك ثمة مشكلة ازلية تواجه البنية الفكرية والمعرفية لدى الكثير من المجتمعات، قديماً وحديثاً، الا وهي التسليم بصورة قطعية بالكثير من المعتقدات والافكار والقناعات، دون التحقق من مدى صدقيتها أو ملاءمتها لواقع تلك المجتمعات.
وليس بالضرورة هنا، أن يتعلق الامر بالجانب الروحي الذي تُمثله الاديان والمعتقدات، رغم كثافة ووضوح ذلك، ولكن الواقع يُبرز الكثير من المجالات والتفاصيل المختلفة التي تسقط في تلك التجربة المريرة.
وحتى أقترب كثيراً من مصطلح الحيادية الذي يُعتبر أحد أهم المصطلحات الملتبسة والمعقدة في منظومة الوعي والإدراك الجمعي، سواء بين المثقفين والنخب أو بين مختلف الشرائح والمكونات الاخرى.
الإعلام والحيادية، وجهان لعملة واحدة، أم قيمتان متوازيتان؟
تساؤل ملغوم كهذا، يُلخص تقريباً الحالة المرتبكة لعلاقة الاعلام كسلطة وتأثير ونفوذ، ببعض المبادئ والقيم والصفات، وعلى رأسها الحيادية والمصداقية والشفافية.
ليس بالضرورة، أن يُمارس الاعلام بمختلف الوانه وأساليبه الحيادية كمبدأ في اهدافه أو استراتيجية في نشاطاته. تلك هي الحقيقة التي اثبتتها الوقائع والأحداث والتجارب، وذلك هو الواقع الذي تتحرك وفقه المؤسسات الإعلامية ولنأخذ القنوات الفضائية كمثال على ذلك.
لقد ذهبت كل دعوات الحيادية والمصداقية والشفافية أدراج الرياح، إذ ارتبط الامر بتقاطع المصالح وتشابك العلاقات. كل الحقائق والتجارب في الفضاء وعلى الأرض أثبتت بما لا يدعو للشك، نُدرة الاعلام المحايد والشفاف والمسؤول.
نعم، قد تتباين مستويات الحيادية والنزاهة والاستقلالية بين إعلام وآخر، تبعاً لمستوى الحرية والشفافية والمصداقية التي تتمتع بها بعض الدول عن غيرها. فمسطرة الإعلام، عادة ما تُحدد بين إعلام حر ونزيه ومستقل، وبين إعلام مُسيّس وموجّه ومؤدلج.
وبالتحليق قليلاً في سماء الاعلام العربي التي تزدحم بأكثر من ٤٠٠ قناة فضائية عربية، تنشط أغلبها في مجالات الترفيه والمسابقات والغناء والأفلام، ستجد نفسك أمام رُكام هائل من الاسفاف والابتذال ، بل والعهر والانحطاط الاعلامي.
إن واقع الاعلام العربي الذي تُمثله تلك الدكاكين الاعلامية - القنوات الفضائية العربية - التي تبيع الوهم وتسوق الابتذال وتروج للاسفاف، بحاجة لوقفة تأمل ودراسة وتحليل. وليت الامر قد وقف على كل هذا التدهور الاخلاقي والانحدار المهني في مسيرة الاعلام العربي الذي تُبشر به تلك القنوات الفضائية الرخيصة، ولكن المشكلة الكبرى، بل الخطر الحقيقي على مستقبل العالم العربي، من محيطه لخليجه يأتي من تلك الدكاكين المشبوهة التي تبث السموم والأكاذيب والإشاعات، وتروج للفكر الضال والمنحرف والشاذ، وتسوق للكراهية والعصبية والطائفية.
نعم، لقد ولى زمن الوصاية والمنع والحجب، لقد ولى إلى غير رجعة، ولكن أن يكون البديل، كل هذا السخف والابتذال والانحلال من جهة، أو التعبئة الطائفية والتجييش المذهبي من جهة أخرى، فهذا ما لا تحمد عقباه.
لماذا يُستغل الفضاء المفتوح على كل الاتجاهات لإشاعة الفتن والقلاقل والمحن، وافتعال الصراعات والأزمات والاحتقانات، وإثارة العصبية والقبلية والطائفية؟
القنوات الفضائية، كأحد أهم الاشكال والوسائل الاعلامية الحديثة والمؤثرة التي يغص بها الفضاء العربي، بحاجة ماسة لان تُمارس دورها التنويري والثقافي والاجتماعي، ومسؤوليتها الكاملة لزيادة منسوب التقارب والتجانس والتكامل بين المجتمعات العربية التي تربطها وشائج الدم والدين واللغة والمصير.
وفي المقابل، لابد من وجود قوانين وضوابط وإجراءات واضحة ودقيقة لتنظيم عمل هذه القنوات الفضائية وكل الوسائل الاعلامية المختلفة، إضافة إلى تشريع بعض العقوبات الرادعة ضد كل من يُحاول النيل من وحدة وأمن واستقرار المجتمع بكل مكوناته وشرائحه ومختلف تفاصيله، سواء من المؤسسات الاعلامية والإعلاميين أو كل من يستخدم الوسائل الاعلامية المختلفة.
القنوات الفضائية العربية، يجب أن لا تقع بين سندان الاسفاف والابتذال والانحلال، أو مطرقة التشدد والغلو والعصبية. كذلك يجب أن تتحرر من بعض مظاهر القدسية الوهمية لدور الإعلام كرسالة وقيمة وحالة، ولتتعامل مع الاعلام كصناعة تُقدم خدمة، تماماً ككل القطاعات الاخرى كالصحة والتعليم والاقتصاد والتجارة.
القنوات الفضائية، بل الاعلام بشكل عام، بضاعة تتأثر بحالة السوق وبظروف العرض والطلب، وبرغبات المعلن والممول، أما إضفاء هالة من القدسية والرسالية والحيادية على تلك القنوات الفضائية، فمجرد خطاب إعلامي تُتقنه بكل حرفية ومهنية، وتعرف جيداً كيف تستفيد منه..