جريدة الجرائد

من قال بأن العرب بحاجة إلى تنوير؟!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

هاشم صالح

سوف أعتذر يوما ما عن هذه الجريمة النكراء التي ارتكبتها: الإعجاب بمفكري التنوير الأوروبي! سوف أعتذر عن تلك السنوات الطويلة التي أمضيتها بصحبة ديكارت وسبينوزا وفولتير وديدرو وجان جاك روسو وفيكتور هيغو وانتهاء ببول ريكور وهابرماس وهانز كونغ ولوك فيري وعشرات غيرهم.. سوف أعتذر عن "القبوع في كهوف التنوير المظلمة" طيلة حياتي كلها. عندما كان الزائر يدخل إلى بيتي فجأة كان يجد عشرات الكتب متراكمة على الطاولة أو مستلقية على السرير تحت المخدة أو فوقها أو حتى تفترش الأرض. فيتوهم عندئذ أنها لي في حين أنها مستعارة من المكتبات الفرنسية المحيطة بالمنطقة التي أسكن فيها. كنت مسجلا في خمس مكتبات بلدية دفعة واحدة بالإضافة إلى مكتبة الجامعة. لا يوجد شارع أو حي أو حتى قرية نائية في فرنسا من دون مكتبة عامة لكي يتثقف الشعب بالمجان كما يشاء ويشتهي. هل تريدونني ألا أعجب بذلك؟ ولم تكن أمينة المكتبة تسألني هل أنا مسلم أو مسيحي، بروتستانتي أو كاثوليكي، سُني أو شيعي، لكي تعيرني الكتب! لا وجود لهذا الوباء الطائفي في أوروبا المستنيرة المتحضرة. كنت تشعر فعلا بأن الثقافة حق للناس كالماء والهواء، تماما كما حلم طه حسين بالنسبة لمصر، وكما تحلم الشيخة مي بالنسبة للبحرين وتحاول تحقيقه بقدر المستطاع.

ولكن اسمحوا لي أن أستنكر هنا تلك المغالطة التي تحاول إيهامنا بأنه لا يوجد شيء اسمه تفاوت تاريخي بين الشعوب، وأن الجميع سواسية من حيث التطور التاريخي، وأن العرب والمسلمين جميعا معفيون من استحقاق التنوير الديني والفلسفي.. إنهم مستنيرون خلقة وليسوا بحاجة للمرور بالمرحلة التنويرية كما حصل لبقية شعوب العالم. اسمحوا لي أن أستغرب هذا الموقف الذي يرفض الاعتراف بالتأخر التاريخي للمسلمين ويخجل منه أو به. أقول ذلك وبخاصة عندما يصدر عن مثقفين مطلعين ومحترمين.

عندما ألقي نظرة بانورامية على المشهد العربي الحالي ماذا أرى؟ أرى صورة أوروبا في عصور الانحطاط والظلام عندما كان كهنة التزمت يسيطرون على العقول من أقصاها إلى أقصاها. أرى صورة أوروبا عندما كانت لا تزال أصولية متعصبة تذبح بعضها البعض على الهوية: هذا كاثوليكي وهذا بروتستانتي. ولكن عندما أنظر إلى أوروبا الحالية أجد أن كل ذلك اختفى تماما كما لو بقدرة قادر. فأشعر بالارتياح والإعجاب. وأحسدهم من كل قلبي. ثم أتساءل مبهورا: كيف استطاعوا تحقيق المعجزة؟ كيف استطاعوا الانتصار على أنفسهم وتجاوز عصبياتهم الطائفية والمذهبية الضيقة؟ كيف استطاعوا بلورة مفهوم جديد للدين؟ عندئذ أدرك أن فلاسفة التنوير مروا من هنا. عندئذ أعرف معنى فولتير، ومعنى كانط، ومعنى جان جاك روسو. عندئذ أعرف معنى التنوير وأكاد ألمسه بيدي لمسا. هذا ما شعرت به عندما زرت سويسرا أو هولندا أو ألمانيا أو إنجلترا.. أعترف أنني مبهور بالحضارة، بالإنجازات التي حققتها البشرية. أعترف بأن تلك القطيعة الإبيستمولوجية التي نقلت أوروبا من عصر الطائفية إلى عصر المواطنية والحداثة تعجبني. وأنحني أمام الانتصار على الذات، أمام تحقيق "المستحيل" على وجه الأرض. كل تلك المجازر والحروب الأهلية الجارية حاليا أكبر دليل على أننا لم نتجاوز بعد المرحلة الطائفية للدين أو التدين. وهي المرحلة التي تجاوزتها أوروبا المستنيرة منذ زمن طويل. ثم تريدونني ألا أعجب بها؟ هناك إذن مشكلة، بل ومشكلة حقيقية في عالمنا العربي. ورجال السياسة عاجزون عن حلها. هذا ليس من اختصاصهم. وحدهم المفكرون الكبار سيحلونها إذا ما ظهروا في أرض العرب، وسيظهرون!

سأعترف لتلك الصديقة العزيزة المثقفة والذكية جدا بأنني لم أعد أؤمن بأسطورة المهدي المنتظر الجميلة منذ زمن طويل. ولكنني جاد كل الجدية عندما أقول بأن العرب يتخبطون وأنهم ينتظرون مفكرهم الأكبر مثلما كان الألمان ينتظرونه في القرن السادس عشر فظهر لوثر، والفرنسيون في القرن السابع عشر فظهر ديكارت، والإنجليز فظهر جون لوك، والألمان مرة أخرى فظهر كانط، إلخ.. عفوا نسيت جان جاك روسو الذي أضعه فوق الجميع. نسيت أيضا فولتير، وهيغل، ونيتشه وكل فلاسفة التنوير الكبار. إنني أعتبر هؤلاء بمثابة الظهورات المشعة التي لا يجود بها الزمان إلا قليلا. نعم الفكر أولا، نعم في البدء كانت الكلمة. والكلمة العربية الإسلامية علاها الصدأ وغطاها الغبار. وهي أحوج ما تكون إلى التعزيل والتنظيف والتطهير. من سيعزل العالم العربي من تراكماته؟ أكاد أقول: تلزمنا كاسحات ألغام!

وسأعترف لذلك الصديق العزيز الذي يتهمني "بالسلفية" لأنني أحبهم بأنها تهمة لا أنكرها وشرف أدعيه. نعم إنني سلفي بهذا المعنى، سلفي محض. ولكن مرجعياتي "السلفية" تشكل، في كل مرة، انفراجات داخل الانسدادات. إنها إضاءات تشق دياجير الظلمات. وبالتالي فشتان ما بين السلفيتين! أضيف إلى ذلك بأن مرجعياتي ليست كلها أوروبية. فالتنوير كان عربيا إسلاميا قبل أن يصبح أوروبيا. ولذلك أضيف إليهم الجاحظ والكندي والتوحيدي والفارابي وابن سينا وابن رشد والمعري وطه حسين ونجيب محفوظ ومحمد أركون وكل عباقرة العرب والمسلمين. وأخيرا لولا العيب لقلت ما قاله الفرزدق:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
سامي البحيري
بدور -

سامي البحيري يعتقد أن التنوير لا يرتبط بالعرق، بل بالبيئة، وأن المفكرين الكبار ليسوا من سيحل إشكاليات الهوية والعصبيات الطائفية والمذهبية بل التكنولوجيا!