التناقض في الموقف التركي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أحمد يعقوب المجدوبة
لغاية بضع سنوات كانت تركيا غير معنيّة كثيراً بالمنطقة، فقد انصبّ جلّ اهتمامها على محاولة دخول الاتحاد الأوروبي. ولمّا أخفقت في الحصول على عضوية فيه، أو بدا قبولها فيه شبه مستحيل، التفتت إلى الإقليم، وبدأت تتحرك بخطوات سريعة لبناء علاقات فيه.
قلنا حينها إنّ ذلك أمر إيجابي، فتركيا دولة مهمّة في منطقتنا، وهي أصلاً من الإقليم وإليه رغم محاذاتها لأوروبا، ويمكن - بإمكاناتها البشرية والطبيعية والاقتصادية والثقافية - أن تشكلّ إضافة نوعية للإقليم. علاوة على ذلك، تربطنا بها، رغم قطيعة بيننا وبينها دامت ردحاً من الزمن ورغم سلبيات وأخطاء الماضي، روابط ديمغرافية وثقافية وحضارية ودينية واقتصادية مهمّة. عفا الله عمّا مضى.
بداية كان توجه تركيا غاية في الإيجابية. دخلت للمنطقة بروح جديدة وفكر جديد. لخّص تلك الروح وذلك الفكر وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو (الذي درس في الجامعة الأردنية) في لقاء في عمان قبل حوالي أربع سنوات تشرّفت بحضوره مع عدد من الكتّاب والصحافيين والسّاسة. أعلن فيه أوغلو بأسلوبه الهادئ وبحماسة منقطعة النظير عن انفتاح تركيا على كافة دول المنطقة وشعوبها دون تحيّز أو تمييز، وعن المبدأ الأساسي التي بنت تركيا سياستها عليه وهو مبدأ: "صفر عداوة."
تفاءلنا كثيراً بتلك الروح وبذاك النهج. نعم. الإقليم بحاجة ماسة لإنهاء كافة الاحتقانات البيْنيّة التي عكّرت صفو أجوائه لعقود، وكافة الضغائن والأحقاد والدسائس والشرذمة والتهميش الذي يعيشه الإقليم. وبالفعل عزّز تفاؤلنا عدد من الإجراءات التي بدأت تركيا باتّخاذها، منها - إضافة إلى اتفاقيات مهمّة مع العديد من الدول - إلغاء تأشيرة الدخول إلى تركيا. تمّ ذلك فعلاً مع العديد من دول الجوار، ومن ضمنها الأردن وسورية.
لِمَ لا نُكوّن معاً اتحاداً على غرار الاتحاد الأوروبي يكون بداية لانطلاقة الإقليم ونهضة الأمة؟ ألا يحقّ لنا بعد قرن ونيّف من الاستعمار والأزمات والحروب أن ننعم بالسلام والرخاء اللّذيْن تنعم بهما أمم أخرى كنّا أحسن حالاً منها؟
لكن، مع الأسف الشديد، مع بداية "الربيع العربي" تغيّر موقف تركيا وأصبحت شريكاً فاعلاً في التوتر والتأزيم وانحازت انحيازاً واضحاً مع فئة ضد فئة بدلاً من التشبّث بالحياد والعقلانية والوساطة في حلّ النزاعات سلميّاً.
من أكبر الأخطاء وأفحشها أن تتدخل دولة في الإقليم في الأمور الداخلية لدولة أخرى وتنحاز إلى فئة في تلك الدولة إما ضد النظام فيها أو ضد فئة أخرى- وهذا أحد المآخذ الكبرى على "الربيع" العربي. الأصل أن تُترك الأمور الداخلية في كل دولة لشعب تلك الدولة ليقرر مصيره بالطرق التي يراها مناسبة والتي يجب أن تكون سلميّة لاعنفيّة، وأن يقتصر دور الدولة المجاورة على الدعم الحضاري والتوسّط لحل الخلافات سلميّاً وتشجيع الفرقاء على التّفاهم والانتقال السلمي للحرية والديمقراطية، فالصراع لا يولّد إلا الصراع والتأزم لا يفضي إلاّ إلى تأزم.
نتمنى أن تعود تركيا للمسار الذي بدأت به ثم انحرفت عنه، والعدول عن الخطأ فضيلة. يمكن لتركيا أن تلعب دوراً حيوياً، بسبب مكانتها وإمكاناتها، في حل العديد من الصراعات في المنطقة ومنها الصراع العربي الإسرائيلي لا في مفاقمتها، ويمكن أن تكون شريكاً حقيقياً لدول المنطقة "وأخاً أكبر" بالمعنى الإيجابي للعبارة، فتركيا الحديثة قصّة نجاح بارزة، وجيرانها بحاجة للإفادة من تجربتها: صناعياً وعلمياً واقتصادياً وثقافياً.