الثورة السورية... هل وصلت منتصف الطريق؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
طيب تيزيني
الثورة السورية وصلت إلى منتصفها، ويكفي، فلقد كلفت ثمناً باهظاً! تكثر الانتقادات والهجمات حيال الثورة السورية في مرحلتها الراهنة، الانتقادات من قِبل مناصريها ودعاتها، والهجمات من طرف خصومها وأعدائها. وتصدر أحياناً آراء نقدية لها من طرف هؤلاء الأخيرين، كما تتصاعد انتقادات قاسية وعشوائية أحياناً أخرى من قِبل أنصارها والناشطين فيها. ولابد من التأكيد بأن ذلك كله يمثل حالة طبيعية، بل ضرورية ليس في سبيل تقويمها وتصويبها فحسب، بل كذلك من أجل الكشف عن الاصطفافات النظرية والأيديولوجية والسياسية، وغيرها كثير. ويلاحظ أن ذلك يتصاعد حين تواجه الثورة صعوبات في استيعاب ما يجدّ من ظاهرات ومفاجآت متحدرة من واقع الحال السوري، الخاضع لعملية تحوّل كبيرة في سوريا. بل علينا الإشارة إلى أن "خصوصية" ذلك التحول و"جِدّته" يطرحان من الأسئلة ما قد يضعنا أمام "فرادة"، ذلك في التاريخ العربي وكذلك العالمي.
وفي هذه الحال، لا يجوز أن يضيق ذرعاً بذلك الناشطُ في سبيل الثورة، بل كذلك الباحث فيها. وينبغي إضافة عنصر مهم جداً من العملية التي يقوم بها جميع الشعب السوري بمُواليه للنظام السوري، وخصومه والصامتين فيه، في سياق الحدث الضخم الذي يفرض نفسه ها هنا؛ نعني التكلفة البشرية والاقتصادية والمادية والحضارية الهائلة، التي دفعها ويدفعها ذلك الشعب والتي ستفرض نفسها لسنين قادمة. فهذا أنتج حالة مأساوية في أوساط السواد الأعظم، مِما أسهم في نشوء نمط من الرغبة الحثيثة في إنهاء حالات القتل والقنص والحرق والاستباحة، مع تدمير قطاعات كبرى من مظاهر العمران المدني، وما أقامه السوريون ربما على امتداد قرون مضت.
وبعد وضع ذلك كله تحت ضوء الضبط المنهجي العلمي لما يحدث في سوريا منذ سنتين وثلث السنة، راحت تبرز اتجاهات مختلفة يعلن أصحابها قائلين: كفى، وكفّوا عن الجنون، وعودوا إلى نقطة البدء حيث لم تكن توجد مجموعات مسلحة ولا فئات سلفية من الداخل والخارج ولا تدخل من هنا وهناك. أما ما تتحدثون عنه تحت اسم "ثورة" فكفوا عنه، ذلك أن الإنسان السوري أعلى من أية ثورة أو تغيير يفتك بالناس.
وهكذا، فإن ناتج القول هو دعوة للعدول عن الثورة، وعلى الدنيا السلام مع الانتظام في النظام القديم نفسه. فهذا نمط من تملّق المواطنين للخروج من "النفق المظلم" للعودة إلى سابق عهدهم.
وها هنا يظهر بعض الدعاة الإسلاميين ليقدموا فتوى فيما نحن فيه، معلنين: لا يجوز الخروج على الحاكم حتى الظالم، إذا كان ذلك يُفضي إلى الفتن والفوضى. وهنا يلتقي طرفان يبدوان متناقضين، هما الإسلامي والليبرالي. إن التقاءهما يكمن في تكريس الاستبداد، مما يفضي إلى تحريم الخروج على الظلم والبؤس والاستغلال، حين يكون هذا التحريم مسوغاً لإبقاء الأوضاع على ما هي عليه.
ويزيد الأمر تعقيداً واضطراباً، حين تتحول سوريا- وقد تحولت- إلى "لعبة أمم" تسعى كل منها إلى تحويل الصراع الدائر فيها إلى نحو يلبي حاجاتها ومصالحها. ونكاد نعلن أن الأطراف الخارجية الكبرى "على اختلافها" تجمع على المحافظة على النظام الأمني، نظام الدولة الأمنية بما يؤسس لها من استبداد وفساد وإفساد. ومن شأن هذا كله أن يفتح - لدى فريق طائفي معين - أبواب تقسيم سوريا طائفياً وفق نمط جديد محدث من اتفاقية سايكس بيكو. وكما يتضح، يأتي ذلك متطابقاً مع لهاث اللاهثين وراء هدف اختراق الثورة وتفجيرها من الداخل. وفي هذه الحال، لا مانع لدى "الممانعين" من الاستمرار في التحدث عن الثورة، ثورة الحرية والكرامة والعدالة، ولكن على طريقة التحدث عن أهداف "الأمة العربية الواحدة، ذات الرسالة الخالدة"، على مدى يمتد في سوريا من عام 1970 إلى مرحلتنا الراهنة، وبحضور قائد المسيرة على رأسها.
هذا الذي نأتي عليه ربما يشكّل مادة غنية وشاملة لكل حلٍّ يقف وراءه قادة أبديون من المهد إلى اللحد، ذلك أن هؤلاء يمكن أن يوظفوا المفاهيم الفكرية والآراء الأيديولوجية وفق المطلوب. فعلينا أن نتصور أن المفاهيم الفكرية التي يستخدمها أعداء الثورة، يمكن أن تتسع لما يقدمه هؤلاء من توحيد لكل ما هو قائم في الوضعية الراهنة من أفكار وآراء تتحدر من الاشتراكية والوحدة العربية وولاية الفقيه الشيعية وغيرها، وكذلك من الليبرالية الإسرائيلية والمافيوية الروسية.
ويتضح هذا حين يُعلم أن ذلك كلّه يُجمع على إسقاط الثورة واستراتيجيتها وأحلامها، ليهيمن "إلى الأبد" نظام أمني يرى التاريخ في المنطقة العربية مجسداً بتاريخه.
وعلى ذلك النحو، نلاحظ الهدف الذي يضعه أنصار ذلك النظام قائماً على ضرورة إسقاط الثورة، حتى حين تكون قد وصلت إلى نصف أو ثلث أهدافها. وحالئذ، يمكن قبولها برسْم تطويعها للمبدأ الحاسم، الذي يحكم في ذاك النظام، وهو: لا نقبل أقلّ من كل الأشياء! وهكذا يظهر أن الثورة، التي يناضل من أجلها معظم الشعب السوري، لا يمكن تجزئتها أو اختزالها أو إخراجها من سياقها البنيوي التاريخي، كما من وظائفها التاريخية، القائمة - في الأول - على تحقيق الحرية ولا المذلة، الكرامة والعدالة.