عوداً على بدء.. إلى (التكفير)!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد بن عبد اللطيف ال الشيخ
لا أعتقد أن عصراً من عصور التاريخ الإسلامي رأى على أرض الواقع مآلات (التّعجل) بالتكفير والردة والإخراج من الملة مثل عصرنا. ما نراه وما نعاني منه وما نعايشه من طوام وقتل وتفجير وتدمير واغتيالات كان بسبب (التهاون) في قضايا التكفير. ومن يقرأ أدبيات القاعدة - مثلاً - ومن ينظّرون لها يجد أن التكفير هو الطريق الذي يسلكونه لتكفير الفرد والمجتمع والدول، فيستحلوا دماء معصومة، إراقتها عند الله أعظم من هدم الكعبة. أعرف أن هناك مشايخ يقولون: نحن نفرق بين (تكفير المعين) وبين أن تصف قولاً أو فعلاً بأنه كفر وردة. غير أن الرجل البسيط الذي يسمع مثل هذه الفتاوى لا يُدرك الفرق، ولا يعي ما تعون؛ وهناك (انتهازيون حركيون) يُنزلون فتاوى التكفير والإخراج من الملة على شخص بعينه ليصفّوا حساباتهم مع خصومهم، وهؤلاء الخصوم الحركيون لا يهمهم الدين، ولا الضوابط الشرعية، ولا يتحرّجون في إنزال هذه الفتوى أو تلك على (خصم) لهم بعينه، ضاربين عرض الحائط بكل المحاذير الشرعية في مسألة (التكفير)؛ فالمهم (الغاية)، وهي هزيمة الخصم، حتى وإن كانت (الوسيلة) لي أعناق الفتاوى ليُجيّروها إلى مصلحتهم ومصلحة حركتهم السياسية.
أعرف أن بعض مشايخنا - هداهم الله - يتحمسون، ويندفعون، ويُسيطر على أذهانهم هاجس (الزجر)، وتقريع المخالف، حتى وإن كان محل الخلاف قضية فقهية، يسوغ فيها الاختلاف، بل لو كان الاختلاف فيها معروف بين المذاهب الأربعة منذ أن نشأت مذاهب أهل السنة؛ فالذي نعرفه وتعلمناه وقرأناه منذ نعومة أظفارنا أن الكفر والإيمان مسائل مُتعلقة بقضايا العقيدة، وليس بالمسائل الفقهية الخلافية. وحينما تُصبح (المسائل الفقهية) التي اختلف فيها السلف والخلف مدعاة (لتكفير) المخالف فإننا (بالضرورة) نؤسس في النتيجة مجتمعاً يُكفر بعضه بعضا ويقتل بعضه بعضا بدعوى أن أحدهم يرى أن قوله هو (الحق) المطلق وقول من اختلف معه هو (الخطأ) المطلق، وبالتالي فمن خالفني ومن خالف اجتهادي الفقهي فهو (زنديق كافر مرتد)؛ فيكون بهذه الفتوى مهدور الدم حكماً.
ونحن في هذه الفترة الزمنية نُعايش زمناً سيطرت فيه الحركات الحزبية المتأسلمة على الشأن السياسي في بعض الدول العربية، والسياسة مــن ضمن تعاريفها (فن الوصــول إلى المصلحـــة السياســـية)، بغض النظر عن مشروعية وسيلة الوصول مــن عدمها؛ فحركة الإخوان المسلمين - مثلاً - تُسيطر الآن على قمة السلطة السياسية في دولتين عربيتين، هما مصر وتونس، وتنتشر كوادرها بين مواطني أغلب الدول العربية الأخرى بشكل (سري) في الغالب، لذلك فإن كوادر هذه الحركة سيستغلون (الدين) سياسياً كعادتهم لإقصاء كل من يناوئهم، وسيكذبون، ويُدلسون، ويلوون أعناق الحقائق من أجل (إحراق) كل من يختلف معهم. وفي الوقت ذاته سيذرون الرماد على عيون الآخرين، خاصة المشايخ والمؤثرين، كي لا يكتشفوا حقيقة تجربة أقرانهم من (جماعة الإخوان) على أرض الواقع في البلدان التي تسنّموا السلطة فيها.. ففي تونس - مثلاً - قال الإخواني التونسي راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة بالنص: (إن الجمعية التأسيسية للدستور أوشكت على الانتهاء من كتابة مسودة دستور تونس الجديد، مؤكدا على أنها خالية من "مصطلح الشريعة"..). ولتلطيف الموضوع، والتلاعب على جماهيره من التونسيين والعرب قال: (إن مسودة الدستور الجديد تُعبر عن قيم الإسلام - (كذا) - الممزوجة بالقيم الديمقراطية الحديثة)!. والسؤال: هل سيقبل واحدٌ من مشايخنا (غير الحركيين طبعاً) أن تستبدل الشريعة بما سماه (قيم الإسلام الممزوجة بالقيم الديمقراطية)؟.. ألا يعتبر قولاً كهذا قد (ألغى) القرآن والسنة معاً؟.. ومع ذلك، ولأن كوادر حركاتهم هم المحيطون بكثير من مشايخنا، لم نقرأ ولم نسمع أن هذا الشيخ أو ذاك قد أنكر - مجرد إنكار - على الغنوشي هذا التخلي عن أس الحكم الشرعي في الإسلام وهو (الكتاب والسنة معاً) فلماذا هم ساكتون؟
إنها دعوة صادقة (لكبار) مشايخنا أن يتنبهوا للحلقات الضيقة المحيطة بهم، وللأسئلة (الملغومة) التي لا يُراد منها وجه الله جل وعلا، وإنما نصرة أحزابهم وحركاتهم، فيتخذون من أقوالهم وفتاواهم (مطية) للتمكين لأحزابهم السياسية، والمشايخ - للأسف - لا يشعرون.
إلى اللقاء.