الشيعية السياسية وأخطاء الماضي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عبد الحميد سليمان
لا تزال المارونية السياسية حاضرةً في ثنايا الوطن اللبناني، تلك الطريقة الخلاقة والمضطربة في آن، التي صاغت بها النخبة المارونية لبنان وطناً يقع بين لاءين، يبدو أنّها كانت محكومةً دوماً بالخراب، وبالتدمير الذاتي لمنجزها الحضاري المتراكم في الأزمان المُستقطعة بين حربين، والأمر هنا لطالما ذهب أبعد من حروب "الآخرين" على أرض لبنان؛ لقد كان نتاجاً موضوعياً لعجز النخبة اللبنانية "المارونية سياسياً" عن تحديث فهمها لجوهر الوطن اللبناني، أقلّه أبعد من ترهات العيش المشترك القائم أصلاً بفعل ضرورة المكان، أو حتى أبعد من نقض الطرح العروبي الموسوم حينها بالقمع.
لقد كانت حقبة المارونية السياسية في لبنان حقبةً مؤسسة، لأن فهم النخبة المارونية لذاتها طبع فهم الآخرين معها في الوطن اللبناني لها، وحتى فهمهم للبنان، ومن ثم فهمهم لذواتهم الجمعية في هذا الكيان، ربّما لأنّ هذا التلاقح الأول مع الحداثة ترافق مع وعيٍ أول بالذات، من هنا كان التماهي الذي حدث لاحقاً بين المارونية واللبنانية محتوماً. ما سبق لم يكن كارثياً لو أنّه ترقى إلى طرحٍ وطني جامع لا يخص الموارنة وحدهم، لكنّ النخبة اللبنانية حينها كانت قاصرةً وتشوبها عيوبٌ بنيويةٌ تحول دون صوغها لوطنٍ تعاقدي بين أفراد، كانت الجماعات بفهم المارونية السياسية القاصر دائماً حاضرةً في صيغة العقد، وحضور الجماعة يجبّ حضور الفرد على أي حال.
بهذا المعنى الذي سبق، يمكن النظر إلى الشيعية السياسية بوصفها النتاج الراهن للمارونية السياسية؛ حضور الجمعية طاغٍ في كينونتها، ويغيب الفرد المواطن أيضاً عن الصيغة الميثاقية التي وقّعها نواب لبنان في الطائف، يتنحى أيضاً لصالح الجماعة، هذا عنى في الماضي أنّ لبنان ليس وطناً بعد، وهو يعني اليوم الأمر ذاته، لكن الفسحة الزمانية من اللاحرب، التي يمنحها التعب للبنانيين بين حربين تخدع الجميع، كذلك المنجزات الحضارية التي لا يكف اللبنانيون كأفرادٍ عن اجتراحها تعطي الجميع انطباعاً مُوهماً... "نحن لدينا وطن"، وكحال الانطباعات المُوهمة، تكون محكومةً بالانتظار وبالتسويات المؤقتة، أقّله ريثما أن تحترق في الحرب القادمة المحتومة.
واقعية الحديث عن شيعيةٍ سياسية لا تفرضها فقط حيثية التضخم حدَّ الانفلاش لهيمنة حزب الله على القرار السياسي اللبناني، أو حتى رفضه الالتزام بالحدود المفترضة للكيان اللبناني، أو حتى استتباع قراره بوصفه الإرهاص الأكثر تجلياً لحضور الشيعة كجماعةٍ في السياسة اللبنانية. كل هذه أعراض لمتلازمة لبنان، وليست أسباباً لها، الأمر أبعد من هذا كلّه، إنها أخطاء الماضي نفسها، وكذلك العجز القديم نفسه عن الخروج باللبنانيين إلى هويةٍ وطنيةٍ جديدة أساسها الفرد، حريته، كرامته، وحتى رؤيته للمنفعة خارج الجماعة.
من المؤسف القول هنا إنّ الشيعية السياسية تبدو أعجز عن تجاوز أخطاء الماضي، كذلك يبدو من غير الإنساني القول إن الأمور تحتاج إلى حربٍ أخرى كي تنضج، الحقيقة مؤلمةٌ دائماً، ربّما لأنها تضع الأفراد أمام استحقاقاتٍ تتجاوز مداركهم، أو قدرتهم على الفعل إزاءها، وربّما لأنَ اللبنانيين كأفرادٍ خلاقين في هذا الشرق يستحقون وطناً، أكثر حتى من سواهم، لكنّ السياق المؤسف لتفاقم الأمور ينبئ أن الشيعية السياسية سائرةٌ في طريقٍ معبّدة بالإصرار على سوء الفهم لما حدث في الماضي، وبالذهان الكارثي المسحور بالقوة، استلاب السلاح، والانسحار بالديموغرافيا.
على شفا الهاوية يستسلم المرء لتخومها، يجوز أن يقول المرء للبنانيين هذا، لكنّ الركون إلى الواقع الرث لم يكن يوماً سمةً لهذا الأرخبيل اللامحدود من التنوع البشري المدهش، لعلّه ينبغي أن نقول لهم إننا وإياهم محكومون بالأمل، محكومون في النهاية بوعي ذواتنا الفردية، أن نصوغ منها أوطاننا المختلفة، أما عمّا يحدث اليوم في لبنان، فيستحضر معه جواب المرحوم غسان كنفاني حين طرحَت عليه سؤالاً عن معنى الوطن، حينها قال لها: "الوطن يا عزيزتي ألا يحصل أيٌّ من هذا".