تركيا: بداية شيخوخة "حزب العدالة والتنمية"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
جهاد الزين
ألم يكن الرئيس شارل ديغول هو الزعيم الأكثر شعبية عندما تخلّى عن الحكم في فرنسا مستشعِراً ولادة ديناميكيّات حديثة، ولا سيما بين الشباب؟ هؤلاء الذين أغلقوا وحطّموا في شوارع باريس عام 1968 كانوا أقلية ولكنهم كانوا يعبّرون عن حاجات جديدة في المجتمع الفرنسي كما يحصل في شوارع اسطنبول.
في الضجة الكبيرة التي أحاطت وتحيط، وستحيط أكثر بعد انفجار أحداث اسطنبول، بتسمية الجسر الثالث على البوسفور بـ"جسر ياووز سليم الأول" السلطان العثماني الذي حكم بين عامي 1512 و 1520 تركّز السجال على "استفزاز" إسم هذا السلطان العثماني المهم للعلويين الأتراك الحاليين بسبب ما نُسب إليه من مذابحَ ضدهم. لكن الذي لمْ يُثَر في هذا السجال أن السلطان سليم الأول هو فاتح بلاد الشام ومصر (1516) ولهذا فإن اختيار اسمه في الزمن الحالي، زمن الانخراط التركي في سوريا والعالم العربي، قد يُفسّر على أنه يحمل معنى رغبة "حزب العدالة والتنمية" الحاكم بالزعامة على العالم العربي على غرار المرحلة العثمانية التي استمرت أربعة قرون.
لقد فتحت مواجهات "ساحة تقسيم" المجال ليس فقط لمقارنتها بتظاهرات "ميدان التحرير" في مصر بل لإعادة تقييم كل وجوه الحياة العامة التركية.
هناك دول تختصرها عواصمها مثل فرنسا ومصر أو لا يمكن تصوّر "معناها" كدول بدون المدينة العاصمة فيها. يمكن أن نضيف برلين في ألمانيا مع فارق أن ألمانيا دولة غير مركزية في تقاليدها بينما فرنسا ومصر دولتان مركزيّتان. ماذا يبقى من تركيا المعاصرة بدون اسطنبول؟ صحيح أنها ليست العاصمة السياسية ولكنها العاصمة الاقتصادية والثقافية بل "الوجودية" والأيديولوجية لتركيا. ومنذ البداية شكّلت "ساحة تقسيم" لا سيما اعتبارا من العام، 1936 أي بعد أنْ ركّزت الجمهورية نفسها في العاصمة أنقرة، الساحةَ العامةَ الجديدة لتأكيد هوية الجمهورية العلمانية فجرى تحويلها إلى الساحة- المركز في الجزء "الحديث" من اسطنبول الأوروبية الذي كانت حداثتُه العمرانية آخذةً بالتبلور منذ القرن التاسع عشر. وجرى لاحقا هدم الثكنات العسكرية القائمة فيها والمستخدمة لمرة أخيرة خلال الحرب العالمية الأولى لتتحوّل إلى حديقة عامة هي التي يريد رئيس الوزراء رجب طيّب أردوغان بناء مركز تجاري مع إعادة بعض المباني القديمة وبناء جامع كبير فيها. ويرفض ناشطو المجتمع المدني البيئيّون إلغاء أو تقليص مساحة حديقتها الشجريّة.
تحفل المواجهات، غير البعد البيئي، بالصراع على الرموز. إلى الجسر، الثكناتُ هي من الإرث العثماني والجامعُ هو تأكيد الهوية الإسلامية التي لا تحتاج إلى تأكيد سوى من قِبَل "حزب العدالة والتنمية". فعدا عن أن اسطنبول هي المدينة المحتشدة بالمساجد ومآذنها العالية ذات الشخصية المتحدّية (كأبراج كنائس أسبانيا!) هناك على إحدى زوايا الساحة مسجد قديم عند مدخل أكبر شارع مكتظ في تركيا هو "جادة الاستقلال" ولا يبعد الجامع سوى أمتار عن النصب الضخم الذي أقيم كرمز للجمهورية العلمانية. يدفعني إصرار رجب طيّب أردوغان على بناء الجامع في "تقسيم" إلى استعادة تجربة السجال على بناء مسجد محمد الأمين في ساحة البرج في بيروت. هناك سِرٌّ يعرفه المحيطون بالراحل رفيق الحريري الذي سيحضن الجامعُ جثمانَه بعد اغتياله أنه - أي الحريري - كان معارضا أو غير متحمّسٍ في البداية لبناء هذا المسجد من منطلق أنه لا حاجة له بوجود كل هذه الجوامع التاريخية المهمة في محيطه، وكان الرئيس الراحل يشكو من أن إصرار دار الفتوى على بناء الجامع يُحرِجُهُ أمام الرأي العام البيروتي السُنّي... إلى أن أصبح رفيق الحريري المتبنّي الأول للمشروع والمتبرّعَ الرئيسي لبنائه.
رجب طيّب أردوغان تراجع عن فكرة بناء المجمع التجاري في حديقة "تقسيم" ولكنه مصرٌ على بناء الجامع وهذا في رأيي - في ما يتجاوز أحداث اسطنبول- تعبيرٌ عن إحدى مبالغات مراجع سياسية ودينية مسلمة في العالم المسلم من حيث تصوُّرها أن بناء أي جامع تأكيدٌ على هوية المجتمع... هوية لا تحتاج إلى تأكيد في بلدان المسلمين. وحتى الخلافُ الشهيرُ في مدينة الناصرة قبل سنوات حول بناء جامع لم يتحوّل إلى مشكلة مع السلطات الإسرائيلية وإنما إلى مشكلة غير مبرّرة مع مسيحيي المدينة العرب فيما راح الإسرائيليّون يتفرّجون على الخلاف. وهذه مظاهر تتكرّر في كل بلدان العالم المسلم بأشكال وأحجام مختلفة.
تتحوّل مواجهات اسطنبول والمدن الاخرى إلى مواجهات تفريغ لاحتقانات عديدة مختلفة ضد "حزب العدالة والتنمية" في السياستين الداخلية بما فيها الضغط المتمادي على الصحافيين، والخارجية بما فيها المغامرة في سوريا...
الجوهري في ما يجري أن النخب العلمانية بأجيالها المختلفة تخرج عبر هذه المواجهات من سلبيّتها الدفاعية بعد عشر سنوات من تولّي "الإسلاميّين" الحكم. من ضمن هذه النخب العلمانية تلك التي اقترعت لقيادة رجب طيّب أردوغان على مدى ثلاث دورات.
رأيي أنها لم تصبح ثورة بعد ولكنها بداية شيخوخة ما أكيدة في وضع "حزب العدالة والتنمية" حيث الأكثرية الانتخابية لم تعد تكفي وحدها لتجسيد حيويّات المجتمع وطاقاته الجديدة. ألم يكن الرئيس شارل ديغول هو الزعيم الأكثر شعبية عندما تخلّى عن الحكم في فرنسا مستشعِراً ولادة ديناميكيّات حديثة في فرنسا، ولا سيما بين الشباب؟ هؤلاء الذين أغلقوا وحطّموا في شوارع باريس عام 1968 كانوا أقلية ولكنهم كانوا يعبّرون عن حاجات جديدة في المجتمع الفرنسي.
على أي حال قد يفوز رجب طيّب أردوغان بانتخابات مبكرة لكن عليه أن يتلقّى الرسالة: لقد بدأت مرحلة جديدة. مرحلة العد العكسي لنفوذ "حزب العدالة والتنمية" لا نعرف من الآن كم ستطول. لكن في النتيجة، الديموقراطية التركية، كما كتبتُ دائما، اختبارُها بل امتحانُها الحقيقي بات الآن بعد انتهاء عهد "حزب العدالة والتنمية". لأن النموذج التركي، الذي يهمّنا كمشروع وحيد حاليا محتمل النجاح للحداثة في مجتمع مسلم، هو حصيلة جهود أجيال مختلفة علمانية ساهمت في تقدّمه وهذا لا يلغي الاعتراف بإنجازات "الاسلاميين" في هذا التقدم. فالنموذج التركي عكس ما يظن بعض النخب العربية ليس "نموذجا إسلاميا". بل هو نموذج علماني في مجتمع مسلم.
وأحداث اسطنبول والمدن الاخرى لا تقول غير أن حداثة تركيا تعبّر عن مرحلة جدية من تقدمها بصيغة متأزّمة، غالبا ما تعني البدء بالتغيير الذي سيستغرق وقتا مديدا.