قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
جميل مطر&لا أصدق أن أحداً عاقلاً لايزال يعتقد أن "الربيع العربي" حدث عادي أو انحراف بسيط في مسيرة التطور في المنطقة العربية . سمعت أن البعض يظهر بين الحين والآخر على شاشات الفضائيات ليؤكد أن لا شيء ذا أهمية تغيّر في مصر أو خارجها . يزعم أن ما تغير سطحي وتافه، وما هي إلا جهود بسيطة وتعود الأمور إلى ما كانت عليه . بمعنى آخر، تعتقد هذه الجماعة الإعلامية، أن ما تغيّر سيعود إلى ما كان عليه قبل نشوب ثورات هذا الربيع . لا أصدق أنه يوجد أفراد منشغلون بهموم أمتهم وأبنائهم لا يشعرون بحجم وعمق التغيرات التي مست معظم أنحاء العالم العربي، وها هي الآن تؤثر في البلاد الاسكندنافية ودول أخرى في أوروبا الغربية، وأثرت بجلاء وعمق في تركيا وإيران.&&لا أبالغ في القول: إن معظم التغيير الذي أحدثته ثورات "الربيع العربي" لم يقع في الحال، لكنه وقع في مراحل لاحقة، وخاصة في المرحلة الراهنة . ليست قليلة، أو بسيطة، تطورات الشهرين الأخيرين، وخاصة تداعيات تشكيل حلف الخمسين أو أكثر، لمحاربة تنظيم متطرف تشير التقديرات إلى أن عدد أعضائه في أي تحليل نشر عنه يتراوح بين العشرين والأربعين ألفاً، وهو عدد يقل كثيراً عن عدد المتفرجين اللازم لشغل مقاعد جناح واحد في استاد لكرة القدم متوسط السعة . أصداء التنظيم والحلف المناهض له ترددت في كل مكان من العالم، من أستراليا في أقصى جنوب الشرق، إلى فنزويلا وبوليفيا في أقصى الغرب . خوف وقلق لا تبررهما بضع صور وأفلام، بعضها لعمليات ذبح رهائن، وأخرى لمقابر جماعية، ولا تبررهما بالتأكيد هذه الحملة الإعلامية التي رافقت صعود هذا التنظيم وتألقه في الفضائيات .&"داعش" بحد ذاته ليس الدليل الأقوى على مدى التغيير نتيجة ثورات "الربيع العربي" . تكفي نظرة هادئة، ولكن ثاقبة، إلى خريطة متعددة التخصصات للعالم العربي، لنتعرف إلى هذا المدى . تكشف هذه النظرة الهادئة عن سباق محموم بين واقع يتآكل، وواقع جديد ينشأ .&ديموغرافياً، انتقلت أعداد غفيرة من السكان خلال العامين الأخيرين وكانت أكثر ممن انتقلوا في قرون وفي أقاليم عديدة . هاجر سوريون من العرب والأكراد، إلى دول اسكندنافية بأعداد كافية لتحدث تغييراً ملموساً في السياسات السكانية لهذه الدول . وخرجت من سوريا أفواج من اللاجئين كافية وحدها لتغيير الطبيعة الديموغرافية لدول مثل لبنان والأردن، أو كافية لإثارة أزمة سياسية حقيقية، كما هي الحال في تركيا، ومعضلة إنسانية وعسكرية لحلف الأطلسي . أما الداخل السوري فحدّث عنه ولا حرج، حدّث عن طائفة علوية انخفض عدد الشبان فيها إلى مستويات تهدد مستقبل الطائفة، وبالتالي مستقبل السياسة والمجتمع والجيش في سوريا . حدّث أيضاً عن نزوح داخلي دمّر العديد من المعادلات والمسلمات الديموغرافية في سوريا .&اقتصادياً، تضررت الأغلبية العظمى من الدول العربية، وخاصة دول "الربيع العربي"، بسبب أعمال الفوضى، وانسحاب المؤسسات الأمنية وتدخلات قوى خارجية . هذه القوى استفادت من إثارة مزيد من الفوضى لإنهاك الثورة والثوار، وإخضاع إرادة المؤسسات البيروقراطية والسياسية للخارج . كان ولايزال، واضحاً أن هذه الأطراف الخارجية ركزت جهودها للانتفاع من الانحدار الاقتصادي لتحقيق هدفين: ضرب الثورات أو التحكم فيها، أو إضعاف فرص نشوبها من جديد . أما الهدف الثاني فهو احتلال مواقع نفوذ داخل المؤسسات الجديدة في الدول التي حققت درجة أو أخرى من الاستقرار .&سياسياً، لا وجه شبه كبيراً بين الأوضاع السياسية السابقة على نشوب الثورات والأوضاع السياسية الراهنة في "دول الربيع" . ولكن أيضاً لا شبه إلا في الشكل بين الأوضاع في السابق وتلك الراهنة في الدول العربية التي لم تنشب فيها ثورات . ينكرون أن شيئاً أساسياً قد تغيّر، بينما واقع السياسات الخارجية والأمنية في كل تلك الدول لا يشبه في كثير أو قليل واقع ما قبل ثورات الربيع . أظن لا أحد يستطيع الادعاء بأن الدول العربية التي لم تنشب فيها ثورة من ثورات الربيع تعيش الآن وتتصرف كما كانت تعيش وتتصرف قبل أن تموج المنطقة بالثورات وأصدائها .&لا شيء أبلغ في التعبير عن التغيير الذي لحق بالجغرافيا السياسية للعالم العربي من متابعة تطور السباق على رسم خريطة جديدة للمشرق العربي . كذلك فإنه عند تقدير أهمية التغيير الجيوستراتيجي في المنطقة لا يمكن إغفال خطورة الأوضاع على الحدود في كل من العراق وسوريا، أو إغفال مساحات الغزو والكر والفر في كل من اليمن وليبيا . أنا شخصياً لا أستهين بحيوية فئات عديدة في لبنان خاصة، وكذلك في مصر والأردن تبحث عن قارئ فنجان يعينها على قراءة المستقبل .&أسأل كما يسأل الكثيرون من المهتمين بالنظام العربي، ومنظومة القيم والمبادئ التي حكمت نشأته، لماذا لم يحدث بعد التغيير الملموس في هياكل النظام، مثلما حدث في أنظمة الحكم في دول "الربيع العربي"؟&لم تأت إجابة عن السؤال من أي جهة أكاديمية أو مؤسسية، وأجد العذر لكل علماء السياسة والعاملين في حقل العمل العربي المشترك، فكما أن هناك في دول الربيع العربي من استمر حتى يومنا هذا ينكر نشوب "ثورة ربيع"، أو يعتبرها حالة فوضوية، أو في أحسن الفروض مؤامرة كونية، لمنع نهوض العرب وتوحدهم، هناك أيضاً على صعيد العمل العربي المشترك من يستهين بتداعيات ثورات الربيع . يقدم الدليل باستقرار دول أكثر عدداً لم تتعرض لهزات ولا تزال حكوماتها تحكم، كما لا تزال صناديقها مستمرة في تسديد أنصبتها في موازنات الجامعة، الأمر الذي يعني في نظر هذا الفريق أن الجامعة محصنة ضد ثورة تطيح بهياكلها .&&يتعامى هؤلاء، كما يتعامى أقرانهم من المسؤولين في دول لم تنشب فيها ثورة ربيع، عن رؤية التغير الأشمل والجذري الذي وقع في جغرافية العالم العربي وديموغرافيته، وأنظمة وسياسات الحكم، وأمزجة الشعوب وتوازنات طوائفها .&نعيش تداعيات، وتوابع "الربيع العربي" وفصولاً جديدة منه، وبعضنا ينكر، ولن ينفع الإنكار . كنت أتحدث عن أحوالنا العربية مع سياسي مخضرم فاجأني بالسؤال: هل تعتقد أن القائمين على أمر الجامعة العربية يصدقون أنهم على رأس مؤسسة تتمتع بأي درجة من درجات الشرعية؟ لقد فقدت الجامعة العربية ما تبقى من شرعيتها مع نشوب ثورات "الربيع العربي" . واستطرد قائلاً: انظر حولك . . لدينا الآن دول فاشلة، أعضاء في الجامعة العربية، أي دول لا تحظى برضاء أو احترام شعوبها والمجتمع الدولي . ولدينا دول قامت فيها بعد الثورات حكومات لا تزال منشغلة باستكمال شرعيتها، وسط مصاعب جمة وشكوك شعبية لأسباب متنوعة . ولدينا دول اهتزت شرعية أنظمتها الحاكمة حتى الأعماق، يوم خرج الملايين إلى الشوارع في دول عربية أخرى، يطالبون بعيش وحرية وكرامة وعدالة . هذه الدول لم تستعد بعد استقرارها . ولدينا دول غير واثقة تماماً من قدرتها الذاتية على صد غزو عصابات التطرف الديني والإرهاب السياسي.&عاد يسأل: هل يمكن أن يكون لجامعة إقليمية، هكذا حال معظم أعضائها، أي حق في شرعية الوجود أو الاستمرار؟