الثقافة طريقاً للتنمية . . الشارقة أُنموذجا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حبيب الصايغ
تحيل ظاهرة الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة إلى إعادة نظر في "قوانين" التنمية التي تعتبر بمثابة قوانين طبيعية أو مسلمات، ففي إمارة الشارقة تحققت في خلال السنوات والعقود الماضية تنمية حقيقية لها سمات التوازن والشمول والاستدامة، انطلاقاً من تنمية ثقافية أولاً، والذي يحدث، عادة، العكس، حيث التنمية الشاملة تؤدي إلى التنمية الثقافية، فكيف يُقرأ نجاح الشارقة في الوصول إلى سقف عال من الإنجاز، خصوصاً في الخدمات الحكومية المقدمة إلى المواطنين، حين يكون الانطلاق من الإيمان بأهمية الثقافة؟
اتبعت الشارقة في علاقتها أولاً مع الحركة الثقافية أسلوب أن الثقافة للحياة لأنها حياة . هي ليست نخبوية بالمعنى السلبي الممجوج الذي يتداوله البعض، وهي، في السيرورة والصيرورة، ليست سليلة الأبراج العاجية بالمعنيين الحقيقي والمجازي، ومن هنا تكرست الثقافة بما هي "حاجة" وطنية ومجتمعية، فبني الاهتمام المؤسسي بعد ذلك على ذلك، واتخذت التجربة مساراً تصاعدياً من خلال قراءتها ووعيها ومراجعتها والبناء على صالحها، ولعل معرض الشارقة الدولي للكتاب الذي اختتم أعماله أمس، والذي يحرص الدكتور سلطان على الوقوف شخصياً على جهوزيته قبل افتتاحه، في إشارة أنه للناس ولا يتخلى عن الاتقان، شاهد حي على ما يراد هنا، فللمتابع العادي غير المتخصص أن يلاحظ، ببساطة، تطور المعرض عبر سنواته وعقوده، وحسب المرء أن يقف وقفة متأملة أمام دورات المعرض الثلاث الأخيرة (31 و32 و33) ليكتشف الفرق الإيجابي اللافت كل عام، فالمعرض الذي يصنف الآن ثالثاً على مستوى العالم يتقدم، بقوة، ليحتل المركز الأول في القريب، ولا يمكن أن يحدث هذا بالمصادفة، فليس إلا الانشغال والاشتغال، وليس إلا التخطيط وفق نظام صارم ومثابر، ووفق أسقف زمنية محددة بدقة، حيث "مؤسسة" المعرض تعمل على مدار العام، وحيث العلاقة مع معارض الكتب الكبرى ودور النشر الكبرى في العالم، وحيث حرص صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة على زيارة حواضر ومعارض الكتب العالمية شخصياً وفق نظام صارم ومخطط له جيداً، وفي لندن مثلاً لا يفوت الدكتور سلطان أن يلتقي بالمفكرين والمؤرخين وأهل الاختصاص، وفي فرانكفورت لا يفوته لقاء الناشرين العالميين كل سنة لمناقشة قضايا الثقافة والنشر .
وتعاملت الشارقة مع مفهوم الثقافة باعتبار أن الثقافة معرفة وبالتالي علم، فكان الانصراف إلى تحقيق مؤسسات تعليم عال وجامعات لها وزنها المعروف في المنطقة، فإذا قيل جامعة الشارقة، أو الجامعة الأمريكية في الشارقة، فإن الدلالة الخبرة العريقة بالرغم من حداثة العهد، فزمن الشارقة كزمن الإمارات يتجه إلى جهاته الخصوصية وله بوصلته الخصوصية، ولا يمكن مقارنته بأزمنة الآخرين، لكن نهضة الشارقة، لجهة التعليم العالي، لافتة داخل دولة الإمارات وخارجها، والأسباب عديدة منها سلامة التأسيس مشتملة على تجنب أخطاء التأسيس، والتفكير في التطوير بعقل علمي كوني، والاستفادة القصوى من الخبرات العالمية سواء على مستوى التنظيم أو المناهج أو الموارد البشرية، ثم إشراف الدكتور سلطان شخصياً على نهضة الشارقة التعليمية، لا كحاكم فقط، وإنما كرئيس لجامعتى الشارقة و"الأمريكية"، رئيس له مكتبه هناك، وله دوامه ومتابعته ونقده وتصويبه، فكيف لا تصبح المدينة الجامعية في الشارقة عالمية وعريقة ومؤثرة؟
جامعات الشارقة تنبض في مدينة وإمارة الشارقة وكأنها قلب . المقصود أنه لا عزلة في المجتمع ومعه، ولا أسوار والشأن ذاته شأن المؤسسات الثقافية وعلى رأسها دائرة الثقافة والإعلام، ومؤسسة الشارقة للإعلام، فهذه المؤسسات لحياة الوطن وحياة الناس، وهي إذ تستهدف الناس تترفع على نزوع وإيحاء شباك التذاكر، فلا اتجاه لربحية فجة، ولا مصادرة لحرية تعبير أو فكر، ولا إفراط ولا تفريط، ولا يافطة مكتوب عليها "الجمهور عايز كده"، فمع الأيام وعبر السنوات والعقود، أصبح جمهور الشارقة، وهو جمهور عربي و متنوع بامتياز، "يعوز" الأفضل المتفوق فنيا، فما نجحت فيه الشارقة عبارة عن عملية تدريب مضنية وشاقة ومكلفة قطعا، وهذه هي النتيجة وما أجملها . بمناسبة الكلفة، فلا بد من التأكيد على حقيقة أثبتتها تجربة الشارقة أكثر: مردود الإنفاق على الثقافة مضمون .
بهذا تقدم الشارقة الأنموذج، فعلى المعنيين بعنوان التنمية في الوطن العربي، أو الباحثين عن ربيع عربي حقيقي، مطالعة كتاب الشارقة، ضمن كتاب الإمارات، لهذه الجزئية خصوصاً: الثقافة طريقاً للتنمية المتوازنة والشاملة .
عرفت الشارقة بنهضتها الثقافية أولا، ويلمس الجميع أن "الشارع" في الشارقة شارع ثقافي . ليس المقصود إطلاق أسماء ثقافية على بعض شوارع وميادين الشارقة كدوار الكتاب أو شارع عمر أبو ريشة، وليس المقصود تلبية مطالب المواطنين وحل مشاكلهم بأسلوب هو أقرب إلى المعنى والثقافة والحضارة . لذلك معناه لكن القصد أبعد، حيث الثقافة تحولت في الشارقة، كما هي لدى حاكمها المثقف، إلى هاجس يومي واستراتيجي، فالنشاط الثقافي ثري ومستمر، وهو لا يستثني أي مجال أو قطاع ثقافي، من التشكيل إلى المسرح، ومنهما إلى الشعر والسرد، وإلى إطلاق مبادرات ثقافية مثل "في كل بيت مكتبة"، ولكل ذلك مواعيد ومواسم وفصول، فقد احتضنت الشارقة أكبر بينالي تشكيل عالمي في المنطقة، وأكبر مهرجان للخط العربي، وأيام المسرح الخليجي والعربي، وفي الشارقة أكبر عدد من المتاحف المتخصصة في المنطقة (17 متحفاً)، وفي الشارقة اهتمام متنام بالآثار والتنقيب، وفي الشارقة اعتناء بثقافة الطفل لا يقتصر على العلاقة بين الطفل والكتاب أو الوسيلة المعرفية أو العلمية، وتذهب إلى إعداد الطفل لمستقبله ومستقبل الوطن من خلال أفكار مبتكرة منها "مجلس شورى الأطفال" .
يتوازى مع ذلك أن المجلس الاستشاري في الشارقة ينشط مكملاً دور المجلس التنفيذي ومتكاملاً معه، والإشارة أن الشارقة تنجح وتحقق التنمية الثقافية والتنمية المتوازنة الشاملة والمستدامة عبر عمل مؤسسي هو برهان أو أحد براهين رشد الحكم، ولا عمل مؤسسياً، أصلاً، من غير ثقافة، ومن غير إيمان بالثقافة باعتبارها أيضاً هوية .
والثقافة التزام . هكذا أكد صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة الرئيس الفخري لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات في كلمته التوجيهية لكتاب الإمارات في افتتاح مؤتمرهم العام الأول (دورة الشيخ زايد 2012)، وعندما تكون الثقافة التزاماً فإن الالتزام يكون ثقافة، وهذا ما أسس سلطان في الشارقة، فأدى إلى هذه القطوف الدانية .
هنا نأتي إلى الجوانب القيمية التي منحت التنمية بصيرتها، فحين تكون الثقافة المنطلق والسقف تكون القيم والأخلاق المظلة والأفق، وذلك بعض عبقرية التنمية في الشارقة والإمارات . صاحب السمو الدكتور سلطان يؤكد على هذا المعنى دائماً، وهو بعض إرث القائد الرمز الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وبعض نهج صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، ولدى ملاحظة خطابات رئيس الدولة في الأيام الوطنية خصوصاً 2005 و2007 يتأكد المرء من أن هذا توجه في دولة الإمارات تؤصله الشارقة في مظاهر وتجليات غير مسبوقة، لم تكن لتصل إلى أهدافها لولا الجدية التي تصبح في هذه الحالة قيمة مضافة، وقد لا يعلم الكثيرون، بل قد لا يعلم إلا من خبر العمل الثقافي في إرهاصاته ومخاضاته ونتائجه أن الجدية فيه شرط لازم، حيث النتائج لا تتحقق مباشرة أو في يوم وليلة، وحيث الصبر بل العناد من طبيعة هذا العمل، وبهذا يعلمنا مشروع الشارقة الثقافي أن نجاحه يعني، مباشرة أيضاً، نجاح المشروع التنموي بأكمله، خصوصاً حين تشتمل الثقافة بما هي سؤال شامل على المعرفة والتعليم بما هما حركة وحياة .
وبجدية وجدة واضحتين احتفلت الشارقة هذا العام بكونها عاصمة الثقافة الإسلامية، كما احتفلت من قبل بكونها عاصمة الثقافة العربية، ومن ثمار الجدية في ذلك التعامل مسرح المجاز الذي هو في المجاز والحقيقة عمل جميل خالد، وقد دخل في حسن الفأل حين احتضن عملاً عالمياً خالداً هو "عناقيد الضياء" الذي حكى، في شكل فني متقدم، السيرة العطرة لنبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وهو الذي حمل رسالة الهدى والثقافة والحضارة، يوم أرسل للعالمين والناس كافة .
من أسباب النجاح، إلى ذلك، العقلية الإدارية لدى سلطان . الإدارة في هذا المقام مَلَكَة ليست عند الجميع، واتضح من خلال مشروع الشارقة الثقافي، وبالتالي التنموي العام، أن الرجل شغوف بالإدارة ممارسة وعلماً، وقد أطلقت الشارقة منذ سنوات الجائزة العربية الوحيدة التي تمنح لأفضل أطروحة دكتوراه في علم الإدارة .
لماذا الثقافة باعتبارها طريقاً للتنمية، ولماذا أنموذج الشارقة؟ مشروع الشارقة الثقافي ملموس لا لدى المثقفين أو المهتمين فقط وإنما لدى الناس جميعا، وبسبب من استناده على القيم التي منحته وتمنحه بصيرته، أصبح أبعد من جغرافيته المحدودة، وعندما وصلت الحرائق إلى المجمع العلمي في القاهرة بأرض الكنانة كان الرصيد المدخر عند سلطان ومن سلطان .
تلك هي الرؤية العميقة لوظيفة الثقافة في المجتمع والوطن والأمة، وكما عود الدكتور سلطان كتاب وأدباء ومثقفي الإمارات، وهو أبوهم الروحي، على لقائهم في مؤتمرهم السنوي كل عام، فإنهم ينتظرونه وكلمته التوجيهية في دورة هذا العام التي تحمل اسم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، بعد أن تشرف المؤتمر في دورتيه الماضيتين باسمي الشيخ زايد والشيخ خليفة . الشاهد أن محمد بن راشد مصدر إلهام يقيناً لحركتنا الثقافية والتنموية، وأن ما وصلت إليه الشارقة من نهضة ثقافية وتنموية هي جزء مهم من نهضة دولة الإمارات العزيزة .
أريد التشديد في النهاية على أهمية وضرورة "مأسسة" العمل الثقافي العربي حتى يصبح مؤثراً في النهوض العام، تماماً كما أراد وفعل الدكتور سلطان، بما امتلك من رؤية المهندس الزراعي والمؤرخ والعالم والحاكم، وقبل ذلك بحكمة الإنسان الذي يبهرك بسمو تواضعه .