عن العرب والديموقراطية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عبدالعزيز التويجري
عندما احتلت اميركا العراق بعد إسقاط نظام البعث هناك، صرح كبار المسؤولين الأميركيين أن العراق سيصبح النموذج الجديد للديموقراطية في العالم العربي الذي يجب أن تقتدي به دول المنطقة، والذي سينقل شعوبها من وهاد التخلف السياسي إلى قمم التحضر والانفتاح. لكن تلك الوعود الخلابة والأحلام الوردية تمخضت عن حمى طائفية وانقسامات مناطقية مزقت العراق وأدخلته في أتون من الصراعات والدماء والارتهان لإيران ومخططاتها الإقليمية. ولا يزال العراق يعاني هذه العلل والمصائب حتى الآن، بل أصبح ساحة للإرهاب والتخلف والدمار. ثم جاء &"الربيع العربي&"، وهو اسم أطلقته القوى الغربية على تيار ثورات الشباب، ليشعل الأوضاع في تونس، ثم في مصر وليبيا وسورية واليمن، ويسقط الحكام والأنظمة، ويحدث هزة كبيرة في المجتمعات العربية وتسابقاً من القوى الحزبية والسياسية على مواقع السلطة. وعادت مع هذا التيار الوعود الخلابة والأحلام الوردية من جديد مبشّرة بفجر منقذ لشعوب العالم العربي، ينقلها من التسلط والتخلف إلى الديموقراطية والتقدم. غير أن رياح الواقع المرير والتدخلات الخارجية جرت بما لا تشتهيه سفن الديموقراطية الموعودة في هذه الدول ما عدا تونس التي، ولأسباب خاصة بطبيعة مجتمعها وتركيبته السياسية، نجت من تيار الاحتراب والتفكك الداخلي وضياع فرص إقامة نظام ديموقراطي توافقي. لكنها مع ذلك لا تزال تعاني تحديات أمنية واقتصادية واجتماعية مرهقة.
&
الربيع العربي الضائع وقبله النموذج العراقي الخادع، لم يحققا تطلعات الشعوب العربية ولم يجلبا الديموقراطية، بل أدخلا المنطقة في دوامة الفوضى الهدّامة، وأرجعا الدول التي تعرضت لهزات وثورات، إلى الوراء مسافات بعيدة، وأفسحا في المجال لتيارات التطرف والإرهاب المشبوهة الهوية والتبعية، لتزيد من حدة الانقسامات، وتمعن في تشويه صورة الإسلام والتخويف منه. وأصبح كثير من مواطني تلك الدول يتحسرون على اوضاعهم السابقة مع سوئها وتسلط وفساد الانظمة التي كانت تحكمهم. فهل هذا التحول السريع والخطير في أوضاع المنطقة صناعة محلية؟، أم هو في الأصل والرعاية فصل من فصول التآمر على العرب ديناً وثقافةً وإنساناً لتقسيم المقسّم وتدمير التراث الحضاري العريق والمدن الحاضنة له، وضرب العرب بعضهم ببعض في حروب وصراعات طائفية وسياسية تنهك قواهم وتفكك نسيجهم وتجعلهم هدفاً سهلاً للقوى الدولية والإقليمية، وفي مقدمها إسرائيل وإيران، الطامعة في ثرواتهم وكياناتهم؟
&
إن الديموقراطية ليست وصفة طبية سريعة المفعول، بل هي منظومة فكرية وإجرائية تنمو في ظل تعليم جيد وتثقيف منفتح يتخلق بقيمها المجتمعُ ويتطور حتى يتقّبل أفراده احترام التنوع وإدارة الاختلاف وتداول السلطة سلمياً، في إطار من التنافس الحر والانتخابات النزيهة. والدول التي نجحت في ترسيخ النظام الديموقراطي، لم تحقق ذلك من فراغ أو في لمح البصر، أو بضربة لازب، كما تقول العرب، بل تحقق ذلك كله بتطور ثقافي وسياسي ونمو اقتصادي واجتماعي. ولذلك فإن فشل المحاولات المفروضة من الخارج، بأي شكل من الأشكال، في إقامة ديموقراطية حقيقية في الدول العربية التي تعرضت للاحتلال كالعراق، أو لثورات الربيع العربي، هو فشل بنيوي في المقام الأول مع كونه أمراً مشكوكاً في مصدره وأهدافه.
&
وإلى ذلك، فالديموقراطية ليست علامة تجارية مسجلة لدولة أو لأخرى من مجموعة الدول العظمى. ولا هي نظام حكم يُقبل بعلاته ومن دون مراعاة للاعتبارات المحلية وللخصوصيات الثقافية والحضارية للدول. وفي الجملة، فإن الديموقراطية ثقافة وقيم ومبادئ تتخلق بها الشعوب وتتكيف معها وتندمج فيها. ولذلك لا يجوز، بل لا يمكن بالطبيعة، إملاء الديموقراطية بنموذجها الغربي الصرف على شعب من الشعوب، وفرض مبادئها وأنظمتها وأنساقها على دولة من الدول، إذا استجابت لها ورضيت بها، قبلت في نادي الدول الديموقراطية، وإذا لم تستجب ولم ترض، اعتبرت دولة مارقة ولربما حوربت ومست في استقلالها وسيادتها.
&
على العرب أن يبذلوا أكبر الجهود الآن لإعادة بناء ما تهدم من كيانات وطنية، والحفاظ على القائم منها، لأنها هي ضمان بقاء الوطن وتماسك الدولة. وتلك مسؤولية جماعية لا يجوز التهاون فيها، وفرض عين لا يُعفى أحد من القيام به. وعلى الحكومات بوجه خاص، التخلص من أوزار الاستبداد والفساد والعناد، وتقديم مصالح الأوطان والشعوب على أي مصلحة أخرى، والانصراف إلى البناء والتطوير كل في نطاق وطنه، وفي إطار التعاون والتضامن الجماعي، ونبذ سياسات التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة عربية، أو التحالف مع أي قوة خارج النطاق العربي ضد مصلحة العرب وسيادة أوطانهم، والشروع في بناء ديموقراطية نابعة من بيئتنا ومستندة إلى قيمنا وروح ثقافتنا العربية الإسلامية، ومنفتحة على الجديد والمفيد من النماذج الدولية الناجحة.
&
وتلك هي التحديات العاتية التي تواجه العرب اليوم، إن استطاعوا أن يواجهوها بما يلزم من الحكمة السياسية وبروح التعاون وتبادل الخبرات والتجارب الناجحة، كانوا في مأمن من الاخطار التي تترتب عليها، وهي كثيرة ومرعبة، وإن عجزوا عن مواجهتها، وقصرت وسائلهم عن كسر شوكتها، وقعدوا عن العمل الجدي لتجاوز الخلافات والنزاعات والعداوات، بقوا محاصرين لا يملكون فكاك أمنها، وعاجزين عن العمل لإنقاذ دولهم، وخاضعين للقوى العظمى التي تتربّص بهم الدوائر.
&
إن ما جرى لنا ولا يزال يجري حتى اليوم من صراع وتدمير وفرقة، أمر لا يرضى به أي مخلص لوطنه وأمته، ومشهد بائس يفرح به الأعداء والشامتون.
&
&