الانعزالية البريطانية والخليج
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عبدالعزيز العويشق
التغييرات في قوانين وقواعد الضريبة والاستثمار والإقامة قد جعلت بريطانيا أقل جذبا لأصحاب الأعمال الخليجيين، خلافا لأهداف السياسات المعلنة لتشجيع الاستثمار والتبادل التجاري مع دول الخليج
&
ربما كان التغيير الوزاري الأخير في بريطانيا أحدث مؤشر على نزعتها الانعزالية الجديدة. ففي 15 يوليو، أعلن رئيس الوزراء "ديفيد كاميرون" عن تعيين "فيليب هاموند"، الذي يُعتبر أحد المتشككين في فائدة الاتحاد الأوروبي، ولوّح في الماضي بتأييده لخروج بريطانيا من الاتحاد إذا لم تستطع إصلاحه، وزيراً للخارجية خلفاً للوزير المخضرم "ويليام هيج".
وجاء التغيير الوزاري مباشرة بعد فشل بريطانيا في حملتها القوية ضد اختيار رئيس وزراء لوكسمبورج السابق "جان كلود جُنكر" رئيساً للمفوضية الأوروبية، نظراً إلى أنه يؤمن بتعزيز صلاحيات الاتحاد الأوروبي، خلافاً لموقف الحكومة البريطانية.
واحد من أهم مؤشرات النزعة الجديدة نحو الانعزالية هو الصعود العجيب لـ "حزب المملكة المتحدة المستقل"، وهو حزب متطرف يقوم على العداء للأجانب داخل بريطانيا وخارجها ومعارضة التوسع في صلاحيات الاتحاد الأوروبي. ففي مايو 2014 فاز الحزب بأعلى نسبة في مقاعد البرلمان الأوروبي المخصصة لبريطانيا، حيث حصل على 24 مقعداً من أصل (73) مقعداً، متفوقاً على الأحزاب الأخرى مثل حزب العمل، وحزب المحافظين الحاكم.
ومع أن "حزب المملكة المتحدة المستقل" لم يفز بأي مقعد في مجلس العموم، إلا أن حصته من الأصوات تزداد بسرعة ملحوظة، ففي عام 1993، حصل على نحو مئة ألف صوت، ولكن عدد أصواته تضاعفت وبلغت نحو مليون في أحدث انتخابات لمجلس العموم (2010)، أي ثلاثة بالمئة من الأصوات. ثم قفز في انتخابات البرلمان الأوروبي (2014) إلى (4.4) ملايين صوت، وهو ما يعادل (28) بالمئة من الأصوات.
وفاز الحزب بثلاثة مقاعد في مجلس اللوردات، وفي الانتخابات البلدية لعام 2013، كان ترتيبه الرابع في عدد المقاعد، والثالث في عدد الأصوات.
وقد أثار هذا النمو السريع للحزب المتطرف قلق الأحزاب الأخرى الأكثر اعتدالاً، إذ تمت مكاسب الحزب على حسابها. ووفقاً لاستطلاع للآراء قامت به شركة (لورد أشكروفت) نُشرت نتائجه هذا الأسبوع، فإن حظوظ الحزب المتطرف في بعض المنافسات في انتخابات مجلس العموم القادمة في مايو 2015 أفضل من حظوظ منافسيه في الفوز فيها، وربما تمكن من انتزاع بعض المقاعد التي يحتفظ بها المحافظون.
ويشترك السياسيون في قلقهم من فوز الحزب المتطرف على حسابهم، ولكنهم يختلفون في طريقة التعامل معه، إذ ينأى معظم السياسيين بأنفسهم عن مهاترات الحزب التي تدعو للانعزالية وتهاجم المهاجرين والأجانب، في حين يقوم بعضهم بتبني بعض أطروحاته، بأمل تحييد قدرته على انتزاع الأصوات منهم. ونرى لذلك بعض أعضاء الأحزاب المعتدلة وهم ينتقدون السياسات المتعلقة بالهجرة، بل يلوحون بإمكانية مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي.
ولهذا القلق ما يبرره، ففي انتخابات البرلمان الأوروبي التي أجريت في مايو 2014، تمكن الحزب المتطرف من استمالة ناخبي حزب المحافظين للتصويت لصالح مرشحيه بأعداد كبيرة. وكان رد فعل المحافظين أن طالبوا بقيود أكثر على المهاجرين "الشرعيين"، كما أرسلوا سيارات وحافلات إلى مناطق المهاجرين "غير الشرعيين" يحثونهم فيها على مغادرة بريطانيا.
ويوجه بعض النقاد اللوم لرئيس الوزراء بسبب سياساته التي يعتبرونها معادية للمهاجرين، وتعهده بالحد من أعداد المهاجرين القادمين ومن حقوق المهاجرين المقيمين، بما في ذلك مواطنو دول الاتحاد الأوروبي. ويطالبونه بالتخلي عن الخطابية الحادة في الطرح، خوفاً من ردود فعل ناخبي الحزب، فضلاً عن إثارة شكوك شركاء بريطانيا من الدول الأخرى. وفي مارس 2014، شكّل أعضاء من حزب المحافظين في البرلمان مجموعة "المحافظون من أجل هجرة مدروسة"، وطالب حينها عضو مجلس العموم "فرانك ريتش"، أحد مؤسسي المجموعة، بتخلّى حزبه عن سياساته الجديدة ضد الهجرة، ويتوقف عن محاولة مجاراة "حزب المملكة المتحدة المستقل" في عدائه للأجانب.
ورداً على الإجراءات المعادية للمهاجرين، خاصة القيود التي وضعت للحد من حقوق مواطني دول الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالإقامة، قامت المفوضية الأوروبية بالتحقيق في الأمر وإحالته لمحكمة العدل الأوروبية للفصل فيه.
وفي حين أن هذه السياسات والإجراءات موجهة بالدرجة الأولى للمهاجرين، فإن مواطني مجلس التعاون قد بدؤوا بالمعاناة من هذا الجو المعادي للأجانب. فسجلت الشرطة البريطانية ارتفاعاً ملحوظاً في عدد جرائم الكراهية الموجهة للمسلمين. وكانت هناك هجمات عنيفة على بعض مواطني الخليج الزائرين والمقيمين في بريطانيا. وربما كانت السرقة أحد دوافع تلك الهجمات، إلا أن الهمجية والاستخدام المفرط للقوة في ارتكابها يُوحي بأنها قد تكون جرائم كراهية.
وفي حين حظيت الجرائم العنيفة التي ترتكب ضد مواطني الخليج في بريطانيا باهتمام ملحوظ من قبل الصحافة، فإن الإجراءات الأخرى الأقل عنفاً قلما يتم الكشف عنها. فالتغييرات في قوانين وقواعد الضريبة والاستثمار والإقامة قد جعلت بريطانيا إقل جذباً لأصحاب الأعمال الخليجيين، خلافا لأهداف السياسات المعلنة لتشجيع الاستثمار والتبادل التجاري مع دول الخليج. وبالمثل، قامت البنوك البريطانية بمضايقة الخليجيين بإلغاء حساباتهم ووقف التعامل معهم.
وفي حين قام الكثير من الدول بإلغاء مطالبة مواطني دول مجلس التعاون بالحصول على تأشيرة مسبقة للدخول، أو سهلت إجراء الحصول عليها، فإن بريطانيا على العكس أصبحت تتشدّد أكثر مع معظمهم. وهناك عشرات الآلاف من الطلبة الخليجيين الذين يدرسون في بريطانيا، على حساب حكومات بلادهم أو أسرهم، ولكن الكثيرين منهم يشتكون من الصعوبات التي تواجههم نتيجة السياسات الجديدة التي تهدف للحد من أعداد المهاجرين. ومع أن حكومات بلادهم تنفق بسخاء على تعليمهم، ولا يواجهون مشاكل مالية، ولا يسعون للعمل في بريطانيا أو استغلال نظام الرعاية الاجتماعية فيها، إلا أن نظام الهجرة البريطاني ينظر إليهم كما لو أنهم سيكونون عالة على الحكومة البريطانية.
ومن المفارقات حقاً أن بريطانيا، بتاريخ إمبراطوريتها التي شملت القارات السبع، تقوم باتباع سياسات انعزالية ومعادية للأجانب اليوم. ومن الغريب كذلك أن تنكفئ بريطانيا على نفسها وتضع القيود على المهاجرين، وهي التي ساهمت في بناء نظام عالمي ساعد أبناءها وبناتها على الانتشار في كل مكان، مهاجرين ومقيمين وزائرين، طلبة وأصحاب أعمال.
&