الأزمة في إطارها الصحيح
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
&فهمي هويدي
&
هل استقال محافظ البنك المركزي المصري راغبا أم طلبت منه الاستقالة؟ ولماذا أعلنت الاستقالة قبل أكثر من شهر على انتهاء مدته في ٢٦ نوفمبر المقبل؟ وما العمل إذا اعترض المحافظ الجديد على قرار اتخذه المحافظ المستقيل خلال الشهر الذي بقي له في منصبه؟ وهل صحيح أن المحافظ المستقيل مسؤول عن أزمة الدولار وتدهور قيمة الجنيه المصري؟ وهل تخفيض سعر الجنيه المصري ٢٠ قرشا خلال عشرة أيام كان قرارا منفردا اتخذه المحافظ أم أنه نال موافقة المراجع الأعلى؟ وهل الرجل كان صاحب القرار في الموضوع أم أنه كان ينفذ سياسة؟ وهل ثمة علاقة بين الإعلان المفاجئ للاستقالة وبين حديث المحافظ عن إسهام تكلفة الإسراع بحفر تفريعة قناة السويس خلال عام في أزمة الدولار التي واجهتها مصر؟ وإلى أي مدى أسهمت في الأزمة العوامل الإقليمية (تراجع أسعار النفط) أو الدولية (انخفاض معدل التجارة العالمية)؟ وهل للإخوان والتنظيم الدولي علاقة بالموضوع؟ وأين أخطأ المحافظ المستقيل وأين أصاب؟ وهل تعيين محافظ جديد سيحل الإشكال؟ وهل نحن بحاجة إلى محافظ جديد للبنك المركزي أم أننا بحاجة أيضا إلى سياسة اقتصادية جديدة؟
هذه الأسئلة مجرد عيّنة لما يدور على ألسنة المتابعين للشأن العام في مصر، الذين يدور بينهم لغط كبير منذ أعلن خبر استقالة الأستاذ هشام رامز من منصب محافظ البنك المركزي يوم ٢١ أكتوبر الحالي. وفي حدود الدوائر التي أعرفها فإنني لم أجد أحدا قادرا على أن يقدم إجابة شافية عن أي من تلك الأسئلة. لكنني أعرف أن كل سؤال مردود عليه بقصص وروايات وشائعات تحير أكثر مما تقنع أو تفيد.للدقة فإن تلك الحيرة ليست جديدة بقدر ما إن المفاجأة ليست جديدة، ذلك أن السياسة التي قيل إنها فن الممكن في بعض التعريفات، هي في بلادنا فن المفاجآت، ولأنها كذلك فإن أي تمهيد لها أو توقع يفقدها النشوة التي يستشعرها كهنة القرار وصُنَّاعه حين يرون علامات الدهشة والحيرة على وجوه المتلقين، إذ إنهم يعتبرون التكتم من مقتضيات الهيبة واستحقاقات التميز. ثم إنهم مقتنعون بأن ثمة حدودا لمعرفة &"الرعية&"، وليس من حق كل من هب ودب من عوام الخلق أن يدسوا أنوفهم في القرارات السياسية العليا. وهو منطق لا يخلو من وجاهة في واقع الحال، ذلك أن الناس طالما أنهم ليسوا شركاء في القرار، فإن محاولتهم فهم خلفياته أو ملابساته قد تعد من قبيل الفضول والتزيد.
ليست بعيدة عن أذهاننا واقعة استقالة المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء السابق في ١٢ سبتمبر الماضي بعدما ظل طوال ١٧ شهرا ملء السمع والبصر في وسائل الإعلام، بسبب حركته التي لم تهدأ في طول البلاد وعرضها. لكننا لم نعرف لماذا خرج من المشهد ولماذا جيء برئيس وزراء آخر بديلا عنه. وحينذاك تركنا للحيرة والبلبلة وغرقنا في بحر الشائعات والأقاويل التي هدأت بمضي الوقت. وبدا أن المراهنة على ضعف ذاكرة الناس واستسلامهم للنسيان، أكبر من المراهنة على إحاطة الرأي العام وإشراك الناس في متابعة تطورات الأحداث في البلد.
لديَّ ملاحظة جانبية في هذا الصدد، خلاصتها أنه ليس من الإنصاف ولا من المروءة أن نكيل الاتهامات للمسؤول بمجرد مغادرته لمنصبه دون أن نسمح له بالدفاع عن نفسه وإيضاح وجهة نظره فيما نسب إليه. وإذا اختار أهل القرار أن يحجبوا عن المجتمع أسباب خروجه أو تنحيته ــ وذلك أمر مؤسف لا ريب ــ فلا ينبغي أن نهيل عليه التراب ونشطبه من التاريخ. ليس فقط احتراما له ولكن احتراما للمنصب وللدولة التي كان المسؤول جزءا منها وأحد رموزها.
لا تعرف كيف يفكر المحافظ الجديد، لكن الذي لا يختلف عليه أحد أن الظروف التي سيعمل الرجل في ظلها بالغة الصعوبة، وأن التحديات التي يواجهها تقتضي اتخاذ قرارات صعبة وشجاعة لا ينبغي أن يقدم عليها إلا بعد التشاور مع الخبراء وأهل الاختصاص. والخشية كل الخشية أن يتردد الرجل في اتخاذ القرارات التي يتعين عليه أن يقدم عليها استجابة لرؤى أهل الثقة. وهذا الكلام ليس من عندي، لكنني سمعته من بعض الخبراء ومنهم من قال إن البنك المركزي تحت ضغط الطلب دأب على ضخ ١٢٠ مليون جنيه مصري في السوق على ثلاث دفعات كل أسبوع، أي ما يعادل ستة مليارات جنيه في السنة، وهو أمر يتعذر احتماله إلا بمراجعات حازمة للعديد من السياسات الاقتصادية، بدءا من الافتتان بفكرة المشروعات العملاقة وانتهاء بوقف استيراد السلع الاستفزازية، ومرورا باتباع سياسة جمركية تحد من استهلاك السلع غير الأساسية. وتلك مجرد نماذج للتفكير ينبغي أن تطرح للمناقشة كحلول لابد منها للأزمة. قال لي بعض مديري البنوك إن محافظ البنك المركزي لم يكن يستشير أحدا أو يحاوره، وكان تعليقي أن ذلك أمر مؤسف حقا، لكن الرجل لا ينفرد به، لأن الحاصل في الاقتصاد هو ذاته الحاصل في السياسة. الأمر الذي يعني أننا بصدد أزمة أوسع نطاقا وأكبر يعاني منها الوضع العام، وقد تجلت بصورة حادة في قطاع الاقتصاد الذي يمس المصالح المباشرة للناس. وحين سألني أحدهم: ما العمل إذن؟ قلت إنني لم أتحدث عن حل، لكنني أردت وضع الأزمة في إطارها الصحيح.