أندري كونت .. الفيلسوف المرح صديق الحكمة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سبونفيل: الفلسفة ليست فقط مغامرة في المجهول، وإنما هي أيضا جهد وعمل، وقراءات كثيرة وصبر.
محمد طيفوري &
"تزحلقوا أيها الفانون، بخفة، فالجليد هش تحت أقدامكم"، هذا لسان حال الفيلسوف الفرنسي "أندري كونت سبونفيل" صادحا بهذه المقولة التي تعود إلى بيار إيف نارفور في وجه جيل بأكمله من فلاسفة فرنسا.
ابن عاصمة الأنوار، أستاذ الفلسفة وصاحب دكتوراه فخرية من جامعة مونس (Mons) في بلجيكا، المحاضر بجامعة السوربون إلى غاية متم عام 1998، حين قرر الاعتكاف في رحاب التأليف والمحاضرات بعيدا عن مدرجات الجامعة. عقد من الزمن بعد هذا التاريخ أصبح صديق الحكمة هذا عضوا في لجنة الأخلاقيات الاستشارية الوطنية بفرنسا (مارس 2008).
&
في عز الاستقطاب والاصطفاف داخل الأوساط الفكرية زمن الثمانينيات، فضل الرجل التغريد خارج السرب والسباحة ضد التيار، بإصداره الأول سنة 1984 الذي وسمه بعنوان "أسطورة إيكاورس: مقالة في اليأس والغبطة"، إذ بدا صاحبنا في نظر البعض، وكأنه غريب عن هذا العالم أو قدم إليه من كوكب آخر، بعيد كل البعد عن هموم السياسة وشجون التاريخ وصراعات الجغرافيا، ما حدا بهم إلى القول إن هناك أخيرا مفكرا يعيش فلسفته، ولا يتظاهر بالتأمل بل يبحث عن السعادة عبر الحكمة، على غرار الأقدمين. نعم، فالفلسفة عند سبونفيل تكمن في التحرر من الذات وتخطي الأنا، ليفتح لنا العالم عندئذ أبوابه، فنكتشفه ونحبه.
ترجمت أعمال هذا الكاتب إلى 25 لغة أوصلت أفكاره إلى الأركان الأربعة للعالم، وبيع في بعضها أكثر من مليون نسخة، وعلى رأسها كتاب "مقالة صغيرة في الفضائل الكبرى"، وفيه يشرح العطش إلى الحكمة الذي يسعى الإنسان المعاصر إلى إروائه، فضلا عن سعيه وراء السعادة والحقيقة؛ فتأتي الحكمة عند مفترق هاتين الرغبتين ضمن حالة تضمهما معا. الحكمة سعادة حقيقية، من وجهة نظر سبونفيل، خلافا للسعادات التي نحصلها من الأوهام والأكاذيب.
وفي السياق ذاته، يؤكد أننا، كلما تقدمنا في البحث عن الحكمة، اكتشفنا أن هذا البحث ليس إلا حلما نرجسيا يراود كل واحد منها، وأن اهتمامنا الشديد بسعادتنا الشخصية يبقينا أسرى الأنا، وسجناء الخوف والرجاء.
ليس غريبا أن نسمع مثل هذا الكلام من فيلسوف يرى أن الفلسفة هي "أن نفكر بأنفسنا، وبشكل ذاتي مستقل عن كل المسلمات المسبقة سواء أكانت ذات طبيعة لاهوتية غيبية أم تحزبية سياسية ضيقة. لكننا لا نستطيع التوصل إلى هذه المرحلة إلا إذا اعتمدنا على فكر الآخرين، خاصة كبار فلاسفة الماضي. فالفلسفة ليست فقط مغامرة في المجهول، وإنما هي أيضا جهد وعمل، وقراءات كثيرة وصبر".
ألم يقل الحكيم سقراط "اعرف نفسك فتعرف الكون والإله"، وقال بعده فريدريك نيتشه "صر ما أنت عليه"، وسعى سبينوزا إلى الغبطة طيلة حياته، ودعت فلسفات الشرق المتعددة إلى السيطرة على الذات ...، بتحصيل كل ذلك يمكننا أن نتوصل إلى فلسفة حياتية ذكية وناجحة، توازن بين الفكر والقلب والجسم، وقد يستغرق تطبيقها العمر كله. وهذا ما يعمل هذا المبدع على دعوتنا إليه وإرشادنا إلى القيام به، في كتبه ومؤلفاته.
يتعمد هذا الفيلسوف المرح بين الفينة والأخرى أن يصدم متتبعيه ومعهم الرأي العام الثقافي الفرنسي والعالمي، ففي إحدى الندوات التي شارك فيها بمعية نخبة ثقيلة في معادلة الفكر والفلسفة بالساحة الفرنسية حول "عودة الفلسفة" فوجئ الجميع بالرجل يقلب الندوة من أساسها، على الحضور والمنظمين معا.
فهو لم يعالج في مداخلته موضوع الندوة الذي رفضه من أساسه بقوله أن المدهش ليس عودة الفلسفة، فهي لم تختلف كي نقول إنها عادت، إنها حاضرة في التاريخ الغربي منذ ألفين وخمسمائة سنة. وهذا هو الشيء الذي ينبغي أن يدهشنا ويحيرنا. الشيء الذي ينبغي أن يثير استغرابنا فعلا هو: لماذا لم تمت الفلسفة؟ لماذا لا تزال تحظى بكل هذا الحضور في المجتمعات الغربية المتقدمة؟ الدين تراجع وانحسر ولكن الفلسفة لا على الأقل في المجتمعات الأوروبية.
على الرغم من أن الفلسفة تجريدية وعرة في الأغلب، وعصية عن الفهم والاستيعاب، إذ يكفي أن نفتح كتاب الفلسفة فترة قصيرة لكي نتيقن من ذلك. بل إنها مملة أحيانا ومضجرة، كما أنها بلا أي فائدة تقنية أو مردود اقتصادي.
من الجوانب المثيرة في فلسفة الرجل موقفه من الدين حيث يدعو إلى التغلب على الإلحاد المادي التقليدي، وينتصر في المقابل لما يسميه "روحانية الإلحاد". وعن عودة التطرف والتشدد الديني يجيب هذا الفيلسوف في أحد حواراته: "ما العمل؟ هل نحارب الدين؟ أبدا لا، فذلك يعني الخطأ في العنوان وتحديد نوعية الخصم، كما أن ذلك يدفع المتدينين إلى التصلب أكثر فأكثر وإلقاء أنفسهم في أحضان المتعصبين. هل نلتحق بالكنيسة الكاثوليكية لمحاربة متطرفي الإسلام؟ لا وألف لا! فذلك إعلان عن عودة الحروب الصليبية. وهذا آخر ما ينقص هذا العالم. فنحن لم نقض على الأصولية المسيحية ومحاكم التفتيش كي نعود إليها في القرن الواحد والعشرين".
إن واقعنا يشهد صراعا تخطئ الأغلبية في تشخيصه، فهو ليس بين الحضارات ولا الأديان ولا حتى المؤمنين والملحدين. إنما يقع حسب سبونفيل بين المثقفين الأحرار المتسامحين سواء أكانوا متدينين أم لا، وبين الأشخاص المحافظين والمتحجرين والمتعصبين بشكل أعمى. وقد يكون هذا التعصب دينيا كما يمكن أن يكون أيديولوجيا. فالشيوعيون ما كانوا يقلون تعصبا وتحجرا فكريا عن المتدينين المتطرفين. في الواقع فإن الحدود الفاصلة بين الطرفين ليست ميتافيزيقية وإنما سياسية، وليست دينية وإنما أخلاقية.
وعليه يدعو كونت سبونفيل إلى وحدة الصف لمحاربة التطرف الديني والتطرف الإلحادي معا. فالنضال يجب أن يكون من أجل السلام بين الشعوب، ومن أجل حرية الاعتقاد على حد سواء.