«أوهام الحرية» عديدة .. وأحدثها «فيسبوك» و«تويتر»
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
&تركي التركي &
يقول المؤرخ البريطاني "إريك هوبزباوم" إن الثورة الصناعية البريطانية دفعت العمال في بداية القرن التاسع عشر إلى صب جام غضبهم على الآلات الضخمة في المصانع، فكانوا يقومون بتحطيمها ظنا بأنها سبب بؤسهم وشقائهم، وليس صاحب رأس المال الذي يدير العمل. تذكر هذه الحادثة والعالم قد تجاوز الثورة الصناعية وصولا للثورة التقنية. ولكنه لم يتجاوز غضبه بعد.
فاليوم ورغم ما تفعله بنا التقنية الحديثة وأجهزتها "الذكية" من عزلة "غبية" إلا أنك لن تجد من هو مستعد لتحطيم هذه الآلات وإن فعل سيقال عنه "مجنون" بلا شك. كما أنه ليس هناك من سيتهم أصحاب شركات التكنولوجيا بأنهم سبب بؤسه وعزلته. إذ تمكنت الرأسمالية التقنية من فرض مفاهيمها، ليس فقط في الاقتصاد ولكن أيضا في معنى الحريات الاجتماعية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وغير ذلك.
&
&"قرية&" التطرف
إلى ذلك، ينظر المفكر "جاك إيلول" إلى التطور من الطاقة الفحمية إلى الكهربائية إلى النووية ومن ثم إلى الحاسوب، على أنه عنصر مؤثر ليس فقط على الإنتاج الصناعي والاقتصادي فقط، وإنما على الإنسان أيضا، على حريته بالتحديد.
فالتقنية في نظر إيلول هي نظام له منطقه الداخلي، وهو الذي ينتج في نهاية المطاف الظاهرة التقنية، أي أنه ينظر إلى التقنية كنظام يعمل بشكل ذاتي وبآلية مستقلة، والإنسان يظل مشروطا لها.
العالم اليوم في تواصله فقط يمثل "قرية" صغيرة. تماما كما أراد له أصحاب الإنترنت ومخترعو الهواتف الذكية أن يكون. ولكن في المقابل فإن هذا العالم الذي قلص مسافاته الجغرافية افتراضيا. يتباعد فكريا وثقافيا بشكل مضطرد ومخيف نتج عنه انبعاث تطرف وهويات مذهبية وعصبية. كانت قد احتوتها وآلف بينها كثير من القرى الريفية والمدن الحضرية لسنوات وعقود. فيما عجزت عن هذا التآلف والانسجام القرية الإلكترونية الحديثة.
وبالعودة لمصانع القرن التاسع عشر فبينما صب مواطنو الثورة الصناعية فيما مضى جام غضبهم على الآلات والمصانع جاهلين أو متجاهلين دور صاحب رأس المال ومن يدير العمل. يجهل كثير من الناس اليوم دور الأدوات والبرمجيات (التقنية). بل قد يصل الحد بهم إلى تبجيل مواقع التواصل مثل "فيسبوك" و"تويتر" ومخترعيها وتقديس دورها إيمانا منهم بدورها في تعزيز الحريات وتمكينها. في حين الواقع نفسه يكذب هذا الأمر. ويؤكد أن سطوة الأيديولوجيات والأفكار المتطرفة العابرة للقارات. زادت بشكل متسارع وملحوظ من خلال هذه الأدوات. التي كانت تبشر بنهاية كل ما هو شمولي. في معرض نشوة انتصار الفكرة الرأسمالية وهيمنتها على حساب كل ما يمت للفكر الإقطاعي الزراعي أو للاشتراكي الصناعي بصلة. من جهته، يرى المفكر الألماني "هابرماس" أن التكنولوجيا تحولت إلى أيديولوجيا المجتمعات الرأسمالية المتطورة، وأنها البديل الموضوعي عن الأيديولوجيات الكبرى،"تصبح الثقافة ترفيه وتسلية وتنظيم لأوقات الفراغ بديلا عن الرقي الإنساني وتربية الذوق".
فتوحات الإنترنت
الترفيه والتسلية هما أكثر ما يعني شركات التقنية في وادي السيلكون، وإن ادعوا غير ذلك، تحت غطاء معلوماتي. ومثلما لكثير من الثقافات عاداتها ومعتقداتها فإن لشركات التكنولوجيا اعتقاد شبه الديني بأن تكنولوجيا الكمبيوتر "قوة لا يمكن إيقافها، تعد بعالم مثالي أفضل، والخاسرون الأغبياء فقط هم من يقاومون التكنولوجيا"، ما أسماه مايكل ساكزاس "عقدة بورج"، وهذا الاعتقاد يجعلهم يمضون في "فتوحاتهم الإنترنتية" دون الالتفات إلى مدى رغبة الناس بهذا الطريق، ودون قراءة واضحة لتأثيرات هذا المسار الافتراضي على حياتنا الاجتماعية.
وهم بالتحرر والفردانية تكذبه صفقات استخبارتية وتجارية منها ما يعقد في الخفاء، ومنها في العلن، حيث المعلومات الشخصية تعرض يوميا للبيع في مزادات تسويقية نصيب الفرد منها هذا الشعور الوهمي والمكذوب بالحرية والتحرر.
التجسس الاستخباراتي، مثلا، الذي ميز العصور الشمولية تمهيدا لقمع كل معارض أو مخالف. لم ينته بدوره بل ارتدى ثوب الحمل الوديع. بعد أن استسلم لـ "خصخصة" رأسمالية أتت على كل شي في هذه الحقبة التقنية حتى العسكري منه.
وعوضا عن الاستجواب والجمع المباشر للمعلومات كما كان يحدث قديما. يظهر عصر الصراع الخفي بين الحكومات فيما بينها من جهة أو فيما بينها وبين شركات التكنولوجية العابرة للحدود من جهة أخرى. وكل ذلك من اجل امتلاك اكبر حجم من كعكة البيانات والمعلومات. التي توفر بدورها اختراقات أمنية واستخباراتية غاية في الأهمية. لتمثل هذه الاختراقات أسلوبا جديدا في القمع والتقصي.
فبتنا من المألوف أن نسمع فترة بعد أخرى عن تجسس أمريكي أو صيني أو أوروبي وقع ضحيته أفراد أو دول بعينها والعكس وارد. دون أن يحدث ذلك ردودا لافتة تتناسب وحجم هذا الاختراق الذي كانت تتحرك ثائرة بسببه الجيوش وكل القوى الوطنية في عصور سابقة. لتكتفي الدول باعتذار أو مقايضة معلوماتية تحل الإشكال، بينما الأفراد في حساباتهم يعيشون نشوة الانفتاح والتحرر والوهم بقدرة أعلى على التأثير، اختلط فيها السلوك البريء بالسلوك الإجرامي الإرهابي. وتباينت الرؤى حول الأولوية الواجب الأخذ بها؛ خصوصية الأفراد المنتهكة سلفا من قبل شركات التكنولوجيا ومجموعات الضغط السياسية المؤيدة لها أم النشاطات الإرهابية المحتملة في منصاتها.
أمريكا ترضخ
وفي تطور لافت حيال هذه الرؤى فإن حكومة أمريكا، التي تعي مدى أهمية هذه الشركات لها ولاقتصادها. التي سبق وأن وقفت في وجه قوانين أوروبية وآسيوية لتقنين عمل شركات التقنية وشبكاتها. استجابت بعد ضغوط مجتمعية لكثير من ردود الأفعال الغاضبة تجاه هذه الشركات، بعدما كشف المحققون في حادثة كاليفورنيا الأخيرة، أن المرأة التي شاركت في التخطيط لهذه الجريمة وتنفيذها كانت قد "بايعت" زعيم "داعش" البغدادي على "فيسبوك" قبل تنفيذ العملية بوقت طويل. ليتقدم اثنان من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي باقتراح قانون يهدف إلى إجبار شركات التقنية، خصوصا مواقع التواصل "فيسبوك" و"تويتر" على إبلاغ قوات الأمن عند رصدها، في محاولة لإجبار هذه الشركات على التعاون مع قوات الأمن بخصوص قضايا الإرهاب.
"التقنية" بداخلها نظام شمولي لا يدركه المتورط في ثنايا ترفيهها ومتعها وأوهامها. نظام يتصالح مع العزلة والعدمية مباشرة لذلك يناسب "داعش" وأمثاله. كما أنه يوهم بالتحرر والانعتاق لذلك "قد يجسد الإنترنت أسوأ ما في الأيديولوجيا التقنية؛ أي الخضوع للوسيلة والأداة" - بحسب دومينيك وولتون في كتابه "الإعلام ليس تواصلا" مضيفا: "إن سحر الإنترنت يتلخص بثلاث كلمات: الحرية &- السرعة - التفاعلية؛ إنها قطيعة ثقافية بين الأجيال مقارنة بوسائل الإعلام الجماهيرية. إنها سيادة الفرد؛ وانتصار المعلومة / الخبر الذي نتقصاه حيثما شئنا ومتى شئنا، والشعور بأننا أذكياء ملمون بالأمور وقادرون على التحرك دونما إذن من أحد".
ويبقى أنه ليس من باب المصادفة أبدا أن تتصدر رواية أدبية تبحث في هذا الموضوع قائمة الكتب الأكثر في أمريكا وبعض الدول الأخرى التي ترجمت هذا العمل للغاتها. إذ يتصدر الروائي الأمريكي جوناثان فرانزين بروايته الجديدة "النقاء" (2015)، سوق القراء بتعداد يفوق ثلاثة ملايين قارئ فضلا عن ترجمتها لأكثر من 50 لغة في مدة وجيزة.
تتحدث الرواية عن الإنترنت وعن الافتراض وعن تفكك الأسر والصراع بين المثالية الافتراضية والواقعية. يقول الكاتب فرانزين عن روايته: "روايتي ضد أوهام الحرية التكنولوجية، التي تحاول بيعنا المخاطر المضيئة لوادي السيلكون". الكاتب المقيم في كاليفورنيا، مسقط رأس الانترنت وشركات التكنولوجيا يؤكد من خلال أعماله باستمرار أن الإنترنت كنظام شمولي هو "المستحيل المجرد"