جريدة الجرائد

الدول بين الابتكار والاندثار

-
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم

في الكتاب الأخير للتنافسية الدولية الصادر عن المعهد الدولي للتنمية الإدارية بسويسرا تم تصنيف حكومة الإمارات الحكومة الأكثر كفاءة عالميا، ولا أذيع سرا عندما أقول بأن السبب الرئيسي لتفوق أدائنا الحكومي هو أننا خلال سنوات طويلة لم نتعامل مع مؤسساتنا الحكومية على أنّها جهات حكومية بل على أنّها مؤسسات خاصة تنافس القطاع الخاص وتعمل بنفس عقليته، وتتبنى أفضل ممارساته، وتقاس أعمالها وخدماتها بنفس معاييره، بل ذهبنا أبعد من ذلك وبدأنا نقيس سعادة متعاملينا ونصنف مراكز خدماتنا وفق أنظمة النجوم الفندقية المتعارف عليها عالميا. وأثبتت التجربة نجاحها حيث ارتفع أداء مؤسساتنا وحققنا الكثير من أهدافنا، ولعلنا نناقش ذلك بشيء من التوسع في القمة الحكومية القادمة.


ولكن شركات القطاع الخاص تمر بدورات في أعمالها، فهي تبدأ صغيرة ثم تنمو وتنطلق وتكبر، ثم يأتي من ينافسها ويطلق منتجات أفضل من منتجاتها، فيتراجع نموها ويتضاءل حجمها وتقل أهميتها ويضعف تأثيرها وقد تخرج من دائرة المنافسة. وهذا ما تثبته الكثير من الدراسات، فأكبر 500 شركة عالميا في عام 1955 لم يبق منها اليوم إلا 11 في المائة فقط، أمّا الـ89 في المائة الباقية فقد خرجت تماما من دورة الحياة والتأثير، بل الأكثر إدهاشا في الموضوع أن متوسط عمر الشركات في تلك القائمة سابقا كان 75 عاما، أما اليوم وفي عالم سريع التغير والتفاعل، فإن متوسط أعمار الشركات في هذه القائمة هو 15 عاما فقط، لأن المنافسة اشتدت، والمنتجات تغيرت، والمجتمعات تطورت.


السؤال هو: هل يمكن تطبيق نفس التفكير على الحكومات؟ هل تشيخ الحكومات والدول وتتأخر مع مرور الزمن؟ هل تبدأ قوية وتكبر ثم يأتي من يزيحها من مراكزها فتتراجع ويقل نموها حتى تخرج من دائرة المنافسة؟ لا أعتقد أن أحدا يمكن أن يختلف معي على الإجابة: نعم الحكومات تشيخ، وتشيخ معها دولها وشعوبها أيضا، وتتراجع أهميتها، ويقل تأثيرها، فتصبح خارج دائرة المنافسة والاعتبار، أو لنقل بعبارة أخرى خارج دائرة التاريخ.


ولكن لنكن إيجابيين - مع الاستمرار في تطبيق نظريتنا في التعامل مع الحكومات كشركات - ولنركز على الـ11 في المائة من الشركات التي بقيت في القائمة، ولنسأل أنفسنا كيف استطاعت البقاء في المنافسة؟ وما هو السر في طول شبابها وتجدد طاقاتها؟ نسأل هذا السؤال حتى تبقى دولنا وشعوبنا أيضا ضمن سباق التنافس الدولي، أو لنقل لتبقى في سباق الحضارة الإنسانية وضمن تاريخ الأمم والشعوب التي تشكل العالم اليوم وتصوغ مستقبله.


لا أشك لحظة واحدة في قدرات عقولنا البشرية، فقد خلقنا الله لعمارة هذه الأرض، نحن خلفاء الله في أرضه، وركّب فينا سبحانه من الذكاء والقدرات الذهنية والدوافع النفسية ما يجعلنا صالحين ومؤهلين لهذه المهمة العظيمة، مهمة تحتاج عقولا متطورة ومتعلمة ومتجددة ومبدعة ومبتكرة.


لو لم يبتكر الإنسان الزراعة لما قامت حضارة، ولو لم يكتشف فوائد النار لما تطورت تلك الحضارة، ولو لم يبتكر العجلة أو الكهرباء أو الإضاءة أو المحركات أو غيرها لما تقدمت الإنسانية، ولو لم يبتكر الإنسان الإنترنت أو الهاتف الذكي لما وصلنا إلى ما نحن فيه اليوم. سر تجدد الحياة وتطور الحضارة وتقدم البشرية هو في كلمة واحدة: الابتكار! وأستغرب من بعض الحكومات التي تعتقد أنها استثناء من هذه القاعدة. الابتكار في الحكومات ليس ترفا فكريا، أو تحسينا إداريا، أو شيئا دعائيا؛ الابتكار في الحكومات هو سر بقائها وتجددها، وهو سر نهضة شعوبها وتقدم دولها.


إذا لم تبتكر الحكومات في طرائق التعليم مثلا، وتعدّ جيلا جديدا لزمان غير زمانها فحتما ستشيخ تلك الحكومات وحتما ستتأخر شعوبها. في دراسة حكومية أميركية أجريت مؤخرا تبين أن 65 في المائة من الطلاب في مرحلة رياض الأطفال سيعملون في وظائف غير موجودة حاليا بل سيتم استحداثها. وفي دراسة لجامعة أكسفورد تبيّن أن 47 في المائة من الوظائف الحالية في جميع المجالات الرئيسية ستختفي بسبب التقدم التقني والتكنولوجي، حيث ستحل الأجهزة محل البشر وذلك خلال عقد من الآن فقط! والسؤال هو: كيف نجهّز أجيالنا وأبناءنا لذلك الوقت؟ وكيف نعد دولنا للمنافسة ليس الآن ولكن بعد عقد أو اثنين من اليوم؟ الإجابة تكمن في الابتكار، وأن نعلّم أجيالنا مهارات التفكير الإبداعي ومهارات التحليل والابتكار ومهارات التواصل والتفاعل، وإلا فإننا نخاطر كحكومات بأن تتأخر شعوبنا وتتأخر نهضتنا، أو بكلمة أخرى أن تشيخ دولنا.


إذا أردنا أن نكون حكومات مبتكرة فلا بد أن نفكر كشركات مبتكرة. وهنا سؤال لا بد أن نطرحه على أنفسنا أيضا: ما هو الأهم للحكومات؟ أن تستمر في الصرف بشكل مكثف على البنية التحتية من شوارع وطرقات وأنفاق وجسور وغيرها؟ أم أن تهتم بالصرف على البنية التحتية غير المرئية من تغيير في الأنظمة وتطوير في التعليم والمهارات وبناء للتطبيقات وإجراء الأبحاث والدراسات ودعم الابتكارات؟
تخبرنا الدراسات بأن أكبر 500 شركة عالمية قبل 40 عاما كانت أصولها المرئية تمثل 80 في المائة من إجمالي الأصول، لكن اليوم أصبحت الأصول غير المرئية كالأبحاث والدراسات والاختراعات تمثل أكثر من 80 في المائة من إجمالي الأصول في قائمة الشركات الـ500 الأولى عالميا. وأنا أقول: إذا أرادت الحكومات أن تبقى في دائرة المنافسة العالمية وألا تشيخ فلا بد أيضا أن تحذو حذو تلك الشركات، وأن تبدأ بإعادة التفكير في ميزانياتها وأين تصرف أموالها؛ فتقليد القطاع الخاص لا يكون فقط في الخدمات بل حتى في طرائق صرف الميزانيات وأولوياتها. وليس سرا أن حكومات أميركا وأوروبا تصرف مجتمعة سنويا أكثر من 250 مليار دولار من الأموال الحكومية على الأبحاث والتطوير لتبقى في مواقع الريادة العالمية، وليس خافيا على أحد أيضا أن سر تطور دول مثل سنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية خلال فترة قصيرة هو تأجيل الصرف على البنية التحتية وتركيزها الكبير على تطوير التعليم وبناء مهارات ومعارف شعوبها، أي البنية غير المرئية. بل إن دولة مثل بريطانيا تصرف من ميزانيتها سنويا على البنية التحتية غير المرئية كاستحداث الأنظمة والتدريب والأبحاث والتطوير أكثر مما تصرفه على البنية التحتية المرئية من شوارع وأنفاق ومبانٍ وغيرها (124 مليار جنيه مقارنة بـ93 مليار جنيه حسب أرقام 2009).


عندما تكون الحكومات مبتكرة فإن بيئة الدولة تكون كلها مبتكرة، وعندما تشجع البيئة على الإبداع والابتكار تنطلق طاقات الناس نحو آفاق جديدة، وتتفتق مواهبهم، ويصبح تحقيق أحلامهم وطموحاتهم ممكنا، وهذا أحد أسرار نجاح الدول التي تشجع شعوبها على الابتكار. وفي العالم الذي نعيش فيه اليوم والذي أصبحت فيه حركة العقول والمواهب والمعلومات مفتوحة كما لم يحدث في تاريخ البشرية من قبل، أصبحت مدن العالم المختلفة تتنافس لتوفير البيئة الأذكى والأكثر إبداعا لاستقطاب هذه المواهب والاستفادة منها لبناء قوتها وتميّزها وزيادة تنافسيتها.


الحكومات المبتكرة هي حكومات جاذبة للمواهب، فعّالة في الأداء، متجددة في الأنظمة والسياسات والخدمات. الحكومات المبتكرة هي القاطرة الأساسية لنهضة الشعوب وتقدّم الدول وارتفاع شأنها. الحكومات المبتكرة تطلق طاقات الشعوب، وترفع من قيمة عقل الإنسان، وتحقق الحكمة الربانية في أن نكون خلفاء الله في أرضه.


الابتكار هو أن تكون أو لا تكون: أنا حكومة مبتكرة، إذن أنا حكومة موجودة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
التنافس
عبدالله العثامنه -

لقد كان المعهد الدولي للتنميه الأدرايه منصفا حين صنف حكومة الامارات الاولى عالميا في الكفاءه وهذا حق وليس منية من المعهد انتزعته الامارات انتزاعا وفرضت نفسها وحضورها رغما عن رغبة المعهد الدولي في ان تكون حكومة اخرى من العالم المتمدن الأكثر كفاءة لكن دولة الامارات سابقت وسبقت وحصدت الميداليه الذهبيه مع تمنياتي بأن تحصد ميداليات ذهبيه اخرى مثل "اكسبو" وغيره لكن ما يهمني هنا هو موضوع التنافس لأني لا اشك للحظه بان الأمارات دخلت منافسة طوعيه مع نفسها وأخرين وفازت حين تفوقت على نفسها أولا ففتحت لنفسها مجالا للتفوق على الأخرين واذا بقيت بهذه الروح التنافسيه فأني لا اشك لحظة بأنه سيأتي اليوم الذي اركب فيه سيارة من صنع الامارت واقتني كومبيوترا امارتيا خالصا وبما ان الموضوع موضوع تنافس فلماذا لا تصاب بالغيره دولا عربية اخرى وتدخل في ماراثون تنافسي مع الأمارات !!،، عودة الى موضوع الأبتكار لأنه لب ومحور الكفاءة يخطيء من يعتقد أن الأبتكار ذاتي المنشأ فلو ان الامارات حصرت نفسها في انتظار المبتكر الاماراتي لطال انتظارها ولتراجعت الى صفوف خلفيه لأن الأبتكار ذاتي ومستورد،، ففي موضوع الأبتكار الذاتي لا يجب على الحكومه ان تتولى هذا المنحى بنفسها وتقوم بالبحث عن الاماراتي المبتكر بل تولي هذه المهمه للشركات العالميه العامله في الامارات فلقد كانت حجة تلك الشركات أنه لا يوجد كفاءات محليه تستحق التوظيف في كادرها اما وقد كثر الخريجون الاماراتيون في كافة التخصصات من جامعات محليه وعالميه فيتحتم على تلك الشركات أن تقوم بتوظيف نسب من اولئك الخريجين بأطراد مستمر فتسن حكومة الامارات قوانين بهذا الخصوص ملزمة مثلا: هذه السنه 5% من الكادر محلي و 6% في السنه القادمه و7% في السنه التي تليها وهكذا تماشيا مع ازدياد الخريجين والكفاءات الاماراتيه وبذلك تربح الحكومه االأماراتيه عقولا محلية مبتكر"بكسر الكاف" اعدتها تلك الشركات العامله على غير رغبة منها اكتسبت خبرة ومهارة ورؤى مستقبليه لقيادة دفة التطور وعجلة التنميه وبذلك تتخلص الدوله الى الأبد من البطاله وتربح جيلا مدربا ومعدا للتكيّف مع تطورات الازمان،، وأما الأبتكار المستورد فهو الدخول في تنافسيه جديده وحاميه مع الغرب والعالم المتمدن في حرمانهم من سرقة العقول العربيه التي تعد بمئات الالاف "تضاعفت بعد الربيع العربي!" فأذا كان الوافدون يشكلون 70% من