جريدة الجرائد

فتـاوى كبــار الكتــاب والأدبــاء»

-
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

&نبيل فرج

&

&

&

&

&

تأثرت النهضة العربية الحديثة فى نشوئها وارتقائها، كما تأثرت كل اتجاهات التجديد والتحديث فى جميع المجالات، بحضارة الغرب وثقافته المعاصرة.

&


ومع هذا ظلت المسافة بين الشرق والغرب مسافة بعيدة، ومحل خلاف شديد يتراوح هذا الخلاف بين الإعجاب المفرط به، والدعوة إلى ترسم خطاه، وبين الرفض التام له، وإدانة معطياته، أو على الأقل تجنب هذه المعطيات.

&

ولم يهدأ هذا الخلاف فى يوم من الأيام. ظل لكل كاتب ومفكر ومثقف فى كل الأقطار العربية، بل ولكثيرين من عامة الناس، رأيه الخاص فى هذه الإشكالية، التى عبرت عنها المقالات والكتب والأحاديث والمواقف، فى دنيا السياسة والثقافة والاجتماع والاقتصاد،وبين يدى كتاب قديم فى هذا الموضوع، عنيت بنشره دار الهلال بمصر سنة 1923، بعنوان &"فتاوى كبار الكتاب والأدباء&"، اتخذ شكل الاستفتاء حول نهضة الشرق ومدنية الغرب، وسئل فيه فئة من الشخصيات المعروفة من مختلف الجنسيات، من الذين يحملون ر سالة لأوطانهم، واتسمت إجاباتهم بالموضوعية التامة، والايجاز الشديد.

&

وأغلب الظن أن هذه الإحابات نشرت أولا فى إحدى الدوريات الصحفية، قبل أن تُجمع فى كتاب.

&

وليس من السهل الآن العثور على هذا الكتاب، لأن قانون الإيداع فى دار الكتب، الذى يحفظ فى هذه الدار كل ما تخرجه المطابع، لم يصدر إلا بعد عشرات السنين من هذا التاريخ.

&

يتألف الكتاب من قسمين، يعكس القسم الأول هموم هذا الزمن حول مستقبل اللغة العربية، تحت تأثير التمدن الأوروبى والروح الغربية التى تأخذ بالعقل لا النقل، ويتناول قسمه الثانى نهضة الشرق العربى وموقفها، إزاء هذه المدنية وهذه الروح.

&

ويتضح من الآراء المطروحة فى الكتاب أنها نظرت إلى الشرق نظرات متشابهة، وأنها قدمت كلماتها مكتوبة بدقة، ولم تكن مجرد آراء مرتجلة، دون عناية بالشكل أو التعبير.

&

ومن يعرف أدب هؤلاء المشاركين يجد أن ردودهم المحكمة تتسق مع إنتاجهم، وإن كانت فى العديد منها أكثر مباشرة فى عرض هذه الإشكالية.

&

والغريب أن أحدا لم يتطرق إلى دور الترجمة والبعثات واستضافة فنون العالم فى نهضة الشرق، رغم أنها كانت من أسس النهضة العربية قديما وحديثا، وتتمثل فيما ترجم من روائع التراث الإنساني، وما كتب من دراسات عن الحضارة الغربية.

&

وقد اخترت من بين صفحات الكتاب لعرضه على القراء خمسة من الأسماء الأكثر شهرة وبُعد صيت.

&

يقول سلامة موسى (1887 - 1958)، برؤية تكاملية لا تفصل عناصر النهضة بعضها عن بعض، إن الطريق الصحيح للنهضة هو الاشتراكية المعتدلة والديمقراطية الحديثة، وهى أوروبية بحتة، وليست

&

لها حدود تقف عندها فى الاقتباس منها أو فى تطبيق المعايير الأخلاقية المتصلة بالعدل والحرية فى عالم وَّثاب لا يحتمل الجمود أو الحركة البطيئة وبنزعته اليسارية التى تقيد حرية الاقتصاد يطالب موسى الكتاب والنقاد فى الصحف والمجلات التى كانت أعلى منابر التنوير بالتصدى للتيارات الرجعية ومحاكمة من يأخذ بها فى الواقع.

&

أما طه حسين (1889 ـ 1973) الذى تعددت دراساته بين الأدب العربى القديم والمعاصر والأدب الأوروبى الحديث حتى غدا عميد كتاب العربية ومرجعها الأكبر، فلم يختلف عن سلامة موسى وان كان أكثر منه افصاحا عن رؤيته الليبرالية الحرة لحاجة الشرق إلى الاتصال الوثيق بالحضارة الأوروبية لكى يستيقظ من سباته الطويل من غير تحديد صيغ هذا الاتصال.

&

وفى تقديره أن مصر وسوريا على وجه الخصوص بحكم معرفته بهما أكثر من معرفته بسائر الاقطار العربية هما المؤهلتان لأن يكون النظام السياسى فيهما مماثلا للنظم الأوروبية بحيث تصبحان جزءا منها ولو أن مصر فى نظره مقدمة على سوريا وعموم الشام فى مدى قبولها للحضارة الأوروبية بفضل رقيها مع أنها أكثر تحفظا فى الانفتاح على هذه الحضارة لأنها أشد منها تمسكا ببيئتها المصرية وشخصيتها العربية.

&

وبهذه الرؤية يحذر طه حسين فى تلك المرحلة من حياته من الفناء فى حضارة الغرب ـ فيما عدا ما يتصل منها بالعلم ومناهج البحث ـ ذلك أن هذا الفناء الذى اتهم به بغير حق يؤدى بالضرورة إلى ضياع البيئة والشخصية القومية.

&

وتتعين الإشارة فى هذا المقام إلى أن مصر كانت تعيش منذ مفتتح القرن العشرين عصرا من الزهو لا يقارن إلا بزهو الحضارة العربية فى القرون الهجرية المبكرة من القرن الثالث حتى السادس.

&

ومن بين الأسماء العديدة التى مضت فى غير هذا الاتجاه وغالت فيه جبران خليل جبران (1883 ـ 1931) الذى يصف الشرق بالعبودية للغرب وبعدم قدرته على التفاخر إلا بآثار الحدود.

&

ويرجع رفض جبران للمدينة الغربية إلى أنها منذ بداية الحرب العالمية الأولى فى 1914 وهى مدانة بما ارتكبته فى حق البشرية من جرائم فادحة وخلط بغيض للمعايير اعترف به عدد كبير من فلاسفة وأدباء الغرب نفسه، شعروا بالغربة والكرب والفجيعة فى عالمنا المعاصر لم يسلموا بغلبة القوة والحيل السياسية على الحق أو يتقبلوا المطامع الاستعمارية والعنصرية التى كانت من آثارها وما صحبها من فضائح ومطامع اقتصادية كان من نتيجتها أن أوروبا فقدت مكانتها كمثال للحضارة الإنسانية وأعلن مفكر مثل شبنجلر موتها فى كتابة &"سقوط الغرب&".

&

وكثيرا ما يكون فى الأمم المتأخرة من المبادئ والقيم ما يفوق فى السمو مبادئ وقيم المدنيات الحديثة.

&

ورغم ثقافة جبران الغربية وتأليفه معظم أعماله الرومانسية الخالدة باللغة الانجليزية ، فلم يكن يقبل من العربى أن يتحدث عن وطنه بغيرالعربية.

&

ايمانا منه بأن النهضات لا تتحقق إلا بالأصول لا بالفروع وبالابتكار، لا بالتقليد خاصة أن فى الشرق كنوزا ثمينة مادية ومعنوية، مطمورة فى تاريخه الطويل، لا يملكها الغرب، ولم يلتفت اليها أحد.

&

ولو أننا قارنا حضارات الشرق بحضارات الغرب، سنجد أن حضارات الشرق تسبق فى الزمن، وأن عمرها أطول من عمر حضارات الغرب بما يزيد على الضعف وبذلك يصبح مجموع عمر التحضر فى الشرق أكبر بحساب السنين من عمره فى الغرب.

&

ويتفق مصطفى صادق الرافعى (1880 ـ 1937) مع جبران فى أن يكون للشرق مدنيته المختلفة عن مدنية الغرب ويعتقد أن القول بأن تكون مصر قطعة من أوروبا قول خطر، ويشكك فى إخلاص من ينادون به، باعتبار أن مفاسد أوروبا لا تعطى أى اصلاح أو تمكن من أى بناء، وإنما تفسد أخلاق الشرق، وتنفى عنه كل فضيلة.

&

والسبيل الوحيد لنهضة الشرق يكمن فى ماضيه العريق، وفى نبذة السلوكيات السيئة التى نقلت عن الغرب، وتشمل هذه السلوكيات &"حب الدنيا&"، التى تعد فى الغرب وميزة يحتفى بها، لا نقيصة يتوقى شرها.

&

والماضى عند الرافعى هو التراث العربى على إطلاقه، لا فرق فيه بين العصور ويقدر مصطفى صادق الرافعى أن روحانية ثلاثة أجيال فقط من الشرق تكفى لأن يغدو بها أستاذا للغرب المادي، بشرط التوقف عن تقليده، لئلا يطيح هذا التقليد بملكته فى الخلق، ويضعف قواه الطبيعية، وخواص عقله ووجدانه.

&

ومصطفى صادق الرافعى يعتبر أساطير الغرب خرافات وسخافات لا تستحق أن تنقل الى الشرق.

&

وهناك أيضا آراء عديدة عقد فيها ميخائيل نعيمة (1889 ـ 1988) مقارنة بين استسلام الشرق لأوضاعه، وبين إرادة الغرب الفعالة لتحسين أحواله وذكر فيها أن الغرب إذا كان ببرلمانه ومعاهده العلمية ومدنيته التى تخضع لقوانين الإدارة أقدر على نزع الخوف من النفس، ونشر الطمأنينة فى البلاد، فلا حرج من الاقتباس منه.

&

ولكن الغرب يأخذ حياته بالبرهان والتحليل ظنا منه انها حقائق ثابتة، والصحيح انها متغيرة لا تثبت على حال بينما ادراك الشرق للحقائق وللغيب يفوق علم الغرب.

&

ولا يختلف نعيمة عن الرافعى فى أن أثمن ما فى الغرب مأخوذ من الشرق، وليس لدى الغرب ما يعطيه للشرق إلا اللحود المطلية من السطح بالذهب، بينما الداخل محشو بالعظام والدود.

&

ويضيف نعيمة إلى جبران أن رفضه للغرب لا يقتصر على تقليد أدبه وشعره، وانما يرفض معه أيضا تقليد قدماء العرب. كلاهما قبيح، لأنه لا يعبر عن قائله فى أفكاره وعواطفه وميوله.

&

ويضم الكتاب أيضا اسماء عدد من المستشرقين، يلفت النظر بينهم المستشرق أ.جويدى الذى يؤكد أن روح التسامح التى سادت الخلافة العربية فى دمشق وبغداد ستتغلب على نزعات التعصب، وأن اقتباس مصر للعلوم والآداب الأوروبية والأمريكية سيعمل على تجديد النهضة العربية ونشرها بين شعوبها.

&

هذه أهم الآراء التى دعا إليها هذا الجيل الرائد من كبار الكتاب والأدباء فى مطلع القرن العشرين، نجد فيها من الاتفاق والتقارب مثلما نجد من الاختلاف والتباين.

&

وهذه هى المفاهيم والمعاني، الدالة على ما ورائها التى كانت شائعة على ألسنة الطبقة المثقفة، وشكلت أو أسهمت فى تشكيل الحياة والمعرفة والثقافة والولاء للوطن فى الشرق، فى تلك المرحلة التاريخية، ولاتزال تعمل على تشكيلها ونحن فى مطالع قرن جديد، دون أن تتمكن احداها من اقصاء الأخري، أو الخروج من الصراع بينها بمركب أو تكوين جديد يتحقق به الوجود المنشود للشرق، فيأخذ من الأصوليات ما يصلح منه للبقاء ويتطور بروح العلم والتحديث إلى أقصى مداها.
&

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف