قوة مصر الحقيقية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
فهمي هويدي
&
تغطية وسائل الإعلام المصرية لرحلة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى ألمانيا بدا فيها الاهتمام بالإخراج دون الإنتاج، على نحو يوحي بأن الاهتمام بالزَفَّة مقدم على الاهتمام بالحصيلة.
وكنت قد فهمت أن للرحلة هدفين، أحدهما سياسي والآخر اقتصادي. والشق الأخير ــ الاقتصادي والاستثماري ــ يبدو أنه الأهم، بدليل حضور الرئيس اجتماعا للملتقى الاقتصادي المصري الألماني والاتفاقات الاقتصادية الأربعة التي ينتظر توقيعها في المناسبة، إضافة إلى اجتماعه في لقاء آخر مع رجال الأعمال الألمان.
وإذ يتوقع المرء، والأمر كذلك، أن يصحب الرئيس وفدا من رجال الأعمال المصريين في مختلف المجالات المرشحة للتعاون مع الجانب الألماني، فإن التركيز في وسائل الإعلام المصرية كان على وفد الفنانين والإعلاميين والشخصيات العامة المكون من ١٥٠ شخصا، الذين استأجر لهم أحد رجال الأعمال طائرة خاصة للاشتراك بالحفاوة بالرئيس في ألمانيا.
ولم نعرف عن الذين اختارهم ولا من الذي سيتولى نفقات إقامتهم، وإن وصف صاحبنا الذي استأجر الطائرة بأنه أصبح مقاول الرحلات الرئاسية.
وفي حين أثارت الأسماء التي سافرت سيلا من التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن الصحافة القومية تحدثت عن أن مصر حرصت في المناسبة على أن تخاطب الألمان بقوتها الناعمة، التي فهمت أنها تمثلت في بعض الفنانين والفنانات، كما تحدثت عن ست مظاهرات للجالية المصرية قامت السفارة المصرية بترتيبها لاستقبال الرئيس عند وصوله، ولتحيته وإظهار التأييد الشعبي له في مقر إقامته، ثم في وداعه بعد انتهاء زيارته.
وقرأنا ما نشر عن الهتافات التي أعدت سلفا باللغتين العربية والألمانية، وعن الخمسين حافلة التي خصصت لنقل المصريين من أنحاء ألمانيا. واستوقفني في برنامج السفارة المنشور حديثه عن احتشاد الجاليات المصرية والجالية القبطية الأرثوذكسية، التي تصورت أنها جزء طبيعي من الجالية المصرية وليست كيانا منفصلا عنها.
الشاهد أن عناصر الزفة كانت مكتملة، من الفنانين والجمهور والفرق الموسيقية والهتيفة. أما العرس الذي هو جوهر المناسبة فلم ينل حظه من الاهتمام والأضواء، وهو ما يجعلني أستنتج أن المبالغة في الزفة كانت مقصودة للرد على رئيس البرلمان الألماني الذي رفض مقابلة الرئيس السيسي، في تعبير له عن الاحتجاج على انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، وانتقاد المحاكمات الجارية فيها لضمانات العدالة. وكأن من رتب أمر الزفة أراد إبهار الألمان إلى جانب توجيه رسالة ضمنية إلى السياسي الألماني الكبير من خلال الوفد الشعبي القادم من القاهرة والحشد الذي نظم لعناصر الجاليات المصرية وهتافات الترحيب التي ترددت أصداؤها في سماء برلين، خلاصتها أن ادعاءه غير صحيح، وأن الشعب المصري بمختلف طوائفه يلتف حول رئيسه في داخل البلاد وخارجها.
هذا التحليل إذا صح فإنه ينم عن تفكير بيروقراطي يتسم بالتبسيط الشديد. صحيح أن عملية الإبهار قد تثير فضول الألمان وربما نالت إعجاب بعضهم، لكنها لا تغير قيد أنملة في الرؤية السياسية، فالطبقة السياسية هناك تشكل مواقفها في ضوء ما تتلقاه من معلومات وما تتحراه من مصالح أو تدافع عنه من قيم، لذلك فإن المظاهرات والهتافات ومشاركة نجوم السينما في المشهد، إما أنها تخاطب الشارع الألماني، أو تخاطب الشعب المصري، أما السياسي أو المستثمر فإنه ليس معنيا بكل ذلك، والزفة بالنسبة إليه مجرد ضجيج في الفضاء لا يقدم ولا يؤخر.
إن البعض عندنا ينسون أن المسؤولين الأجانب، والغربيون منهم بوجه أخص، يعرفون عن حقائق الأوضاع في مصر أكثر بكثير مما يعرفه المثقفون والإعلاميون وربما بعض المسؤولين. ذلك أن لهم في القاهرة سفارات وعيونا وآذانا ترى وتسمع وتتحرى، ووسائل الإعلام بالنسبة إليهم أحد المصادر وليست المصدر الوحيد، ومحاولة التأثير عليهم بما نسميه قوة مصر الناعمة هو نموذج للتبسيط والتسطيح، لأن تلك القوة الناعمة قد تثير فضول الجماهير والرأي العام، لكنها منعدمة التأثير في القرار السياسي أو الاقتصادي. وأي دبلوماسي أو سياسي أجنبي عاقل يعرف أن مصدر القوة الحقيقية لأي دولة يكمن في ديمقراطيتها وأمنها واستقرارها وقوة اقتصادها واستقلال قرارها الوطني.
الحشد الذي أقمناه في ألمانيا ذكرني بالزفة التي استقبلنا بها في عام ٢٠٠٤ وفد &"الفيفا&" حين رشحت مصر لتستضيف مونديال ٢٠١٠ الذي تقررت إقامته في إفريقيا، إذ ظننا أننا يمكن أن نكسب الجولة عبر إبهار الوفد من خلال الفهلوة والمهرجانات الموسيقية والعروض الفرعونية، ولأننا اعتنينا بإخراج الاستقبال وصرفنا لأجل ذلك أكثر من ٤٠ مليون جنيه، في حين أن المنتج لم يكن جاهزا، فقد خسرنا ونالت مصر صفرا في التصويت، وفازت جنوب إفريقيا بالمونديال حين حصدت ١٤ صوتا وحصلت المغرب على عشرة أصوات.
لست أشك في أن النتائج ستكون مختلفة هذه المرة مع ألمانيا، لأن مصر تظل جاذبة للاستثمار، فضلا عن أن للشركات الألمانية مصلحة حقيقية في دخول السوق المصرية، لكنني تمنيت أن نخاطب المجتمع الألماني وساسته بقوة مصر الحقيقية وليس بالفهلوة أو بقوتها الناعمة التي لا تعني الألمان في شيء يتجاوز حدود الفضول. ذلك أن الموظفين المعنيين إذا كانوا قد نجحوا في تنظيم الزَفَّة، فإن المجتمع تهمه نتيجة العُرس.
&