تداعيات عربية للانتخابات التركية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
صالح عبد الرحمن المانع
أحدثت نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة في تركيا هزّة عميقة داخلها وخارجها. فشهر العسل الذي تمتّع به حزب العدالة والتنمية، واستمرّ زهاء ثلاثة عشر عاماً، بات مهدداً بالتراجع، نتيجة فقدان هذا الحزب لهيمنته على الحياة السياسية التركية. وقد أثبتت نتائج هذه الانتخابات أن تركيا عادت إلى قالبها السياسي القديم، الذي كان يحكمها منذ الانقلاب العسكري عام 1980، وحتى عام 2002. فحينئذٍ كان الناخب التركي لا يثق في حزب واحد ليعطيه كل أصواته، بل كان يقسّمها بين أربعة أحزاب متوسطة القوة، دافعاً إياها لإقامة حكومات ائتلافية غير مستقرّة. ولذلك، كانت الحكومات التركية تشبه إلى حدٍ كبير الحكومات غير المستقرّة في إيطاليا. وكان الفارق الوحيد بينهما أن العسكر هم الذين كانوا يلعبون دور الوسيط أو الموازن بين الأحزاب. وإذا ما ضاقوا ذرعاً بأيٍّ منها، يعمدون إما لتهديده بانقلابٍ حقيقي، أو انقلاب على الورق. وإبعاد رئيس الوزراء عن سدة الحكم، وجلب رئيس حزب جديد ليصبح رئيساً للوزراء في حكومةٍ أخرى غير مستقرّة.
&
وكان نجاح أردوغان وحزبه خلال الثلاثة عشر عاماً الماضية، هو البناء على ثقة الناخب التركي في قدرة هؤلاء السياسيين على إدارة الشؤون الاقتصادية للبلاد بكفاءةٍ لم تعهد في السياسيين الأتراك من قبل. غير أن بقاء حزب العدالة والتنمية في السلطة لفترةٍ طويلة أغراه بأن يهجر المسائل الاقتصادية المؤثّرة على المواطن العادي، ليتبنّى برامج سياسية ذات طابع إيديولوجي، لا تتحدث مع المواطن التركي فحسب، بل تتحدث عبر الحدود مع أحزاب دينية خارجية، ومنها بالطبع &"الإخوان المسلمون&"، في العالم العربي.
وهذا التباين في الموقف الرسمي التركي من الأحزاب الدينية في بلاده، المتمثّل في القطيعة مع حركة &"فتح الله غولن&"، وفي الوقت ذاته تبنّي برامج وأحزاب &"الإخوان المسلمين&" في الخارج، بات مفارقة عجيبة في السياسة التركية. غير أن أردوغان وحزبه خلال حكمهم لتركيا نجحوا في تحييد العسكر، وبات الساسة والمجتمع لا يخشون من انقلاب عسكري وشيك.
أما الأحزاب الأخرى التي نجحت في الانتخابات، فلعلّ من أهمها حزب الشعب الديمقراطي الكردستاني، وقد أظهر رئيسه &"صلاح الدين دمرتاش&" قدرةً فائقة، ليس فقط في اجتذاب أصوات الأكراد في شرق تركيا وجنوب شرقها، بل في تبنّي برنامج سياسي يعطي للأقليات دوراً في الحياة السياسية التركية، وهو ما دفع عدداً من الناخبين في مناطق عدة من تركيا للتصويت لمصلحة هذا الحزب، حيث وصل للسلطة من خلاله مرشحون إزيديون ومسيحيون، وكذلك من أقلية &"الروما&".
ولعلّ الكثيرين يتساءلون عن تأثير هذه النتائج على التوجّه السياسي التركي. وأغلب الظنّ أن تواصل تركيا توجهها السياسي نحو بلدان المشرق العربي بنفس الوتيرة التي كانت تنتهجها من قبل. فمثل هذا التوجّه يخدم أهدافها الاستراتيجية، كما يخدم مصالحها الاقتصادية. فبعد يومين من الانتخابات النيابية، أعلنت الحكومة التركية أنها ستفعّل اتفاقيتها العسكرية التي وقّعتها مع دولة قطر في ديسمبر من عام 2014، وأنها سترسل جنوداً إلى هناك للمشاركة في تدريبات عسكرية. وبمعنى آخر، فإن توجه تركيا الاستراتيجي للارتباط مع دول الخليج العربية هو موضوع جوهري في سياستها الخارجية، ولن يتعرّض لأي تغيير.
كما أنّ سياسة تركيا تجاه سوريا لن تتغيّر بشكلٍ كبير، خاصةً في الوقت الحاضر الذي تحقق فيه المقاومة السورية نجاحات كثيرة، ويسجّل فيه نظام الأسد وقواته تراجعاً، وفقدان الكثير من الأراضي. وربما لن تنجح تركيا في تحديد مناطق آمنة في شمال البلاد كي تكون محميّة للاجئين السوريين، لأنّ الولايات المتحدة تعارض مثل هذا التوجّه، كما تعارض إنشاء مناطق آمنة جوياً في سوريا، لأن ذلك يتطلب تدخلاً عسكريّاً أميركيّاً مباشراً. ولكنّ اللعبة السياسية الآن قد تتحول في ظلّ التراجع العسكري لقوات نظام الأسد، وما تتداوله بعض وسائل الإعلام من أن روسيا نفسها باتت تشعر بأن بقاء النظام أصبح مهدداً، ما قد يدفعها للتضحية بمنصب بشار، وإرساله إلى موسكو، لتعيّن شخصيةً سياسية جديدة مقبولة من الشعب السوري ومن المعارضة. وعلى رغم أنّ ذلك قد يحظى بقبول دولي سواءً من الولايات المتحدة، أو من الدول العربية وتركيا، إلا أن مثل هذا الخيار، في ظنّي قد ولّى زمنه.
أما حزب العدالة والتنمية، فعليه أن يدخل في تحالف حكومي مع حزب الحركة القومية، مع اشتراط زعيم هذا الحزب أن يتخلّى أردوغان عن التفكير في تغيير الدستور التركي تغييراً جذرياً يؤدي به إلى نظام رئاسي. وربما تتغيّر زعامة الحزب من الداخل، فقد ظهرت أصوات وشخصيات جديدة داخل حزب العدالة والتنمية تنافس رئيس الحزب، أحمد داوود أوغلو، وتريد أن تسرق الأضواء منه.
أما السياسة الخارجية التركية تجاه العالم العربي، فلن تتغيّر بشكلٍ كبير، إلا في بُعدها الإيديولوجي، بل إن حساب المصالح الاقتصادية والاستراتيجية سيبقى في الأمد المنظور مسيِّراً لهذه السياسة.
&