أزمة الدين في أميركا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
غسان العزي
يكفي النظر إلى أوراق العملة الأميركية الخضراء أو قراءة ألكسي دو توكفيل (الديمقراطية في أميركا) مجدداً، كي نفهم أهمية الدين في الولايات المتحدة. ويعتقد &"الطهوريون&" البروتستانت، وهم المهاجرون الأوائل إلى هذا البلد، بأنهم شعب الله المختار لبناء مملكته على الأرض، وبالتالي فإن للولايات المتحدة مهمة إلهية. وتشير الإحصاءات إلى أن تسعين في المئة من الأميركيين يقولون إنهم مؤمنون بالله، وأربعين في المئة منهم يمارسون الطقوس الدينية. ومن خمسة أشخاص هناك أربعة يعتقدون بالحياة الآخرة، وأن نسبة الأميركيين المتدينين سجلت ٨٢٪ في مقابل ٥٥٪ في بريطانيا و٥٤٪ في ألمانيا و٤٨٪ في فرنسا، كما يمارس ٤٤٪ من الأميركيين الطقوس الدينية بانتظام.
وتقوم المراجع الدينية بإضفاء الطابع السياسي على خطاباتها، خاصة لدى الجمهوريين. فالرئيس ريغان، على سبيل المثال، كان يحب الحديث عن الولايات المتحدة ك&"مدينة مشعة فوق الهضبة&"، مشيراً إلى القديس &"ماثيو&". وقبله كان الرئيس الديمقراطي كارتر يفاخر بتدينه. وبعده فإن الرئيس بوش أكد أن بلاده ربحت الحرب الباردة بفضل الله. ثم جاء ابنه ليستخدم مراجع مسيحية في خطبه، تبريراً ل&"حملة صليبية&" ضد الإرهاب، ولوطنية &"ذات حق إلهي&".
لكن يبدو أن ثمة تغيراً يطرأ على موقع الدين والكنائس في الولايات المتحدة في اتجاه أفول بطيء. فقد أجرى &"مركز بيو للأبحاث&" استطلاعاً للرأي نشره في12 مايو/أيار الماضي تحت عنوان &"تحولات المشهد الديني في الولايات المتحدة&"، جاء فيه أن عدد الكاثوليك والبروتستانت يتناقص في الولايات المتحدة بشكل لافت في حين أن غير المنتمين إلى دين معين يزداد عددهم باطراد. وهذا التغير، في نظر المركز، يدعو إلى التأمل.
في رأيه لم تعد أميركا المسيحية كما كانت، نظرياً على الأقل. ففي سبع سنوات انخفضت نسبة المسيحيين فيها من 78.4٪ عام 2007 إلى 70.6٪ عام 2014، وهو انخفاض لا سابق له لا سيما في صفوف الشبان. في المقابل ارتفعت نسبة الذين لا ينتمون إلى دين محدد من 16٪ عام 2007 إلى 23٪ العام الماضي وباتوا أكثر عدداً من الكاثوليك الذين ينخفض عددهم بشكل لافت.
بالطبع تبقى أميركا مسيحية ولا شك في ذلك، لكن يبدو أنها تتعلمن تدريجياً كما حصل تقريباً في أوروبا الغربية. هذا ما ورد في دراسة &"بيو&" التي هدفت بالتحديد إلى تقديم وصف دقيق ومفصل للجماعات التي يتشكل منها المشهد الديني وخصائصها الديموغرافية والثقافية والدينية. وهذا الاستطلاع نفسه جرى على العينة التمثيلية نفسها في العام 2007، الأمر الذي يسمح بإجراء مقارنة علمية صحيحة.
والحقيقة أن النتيجة التي خرجت بها دراسة &"بيو&" سبق وخلصت إليها استطلاعات للرأي أجرتها مراكز أخرى كشفت عن تراجع شعبية الكنائس الكبرى بالتوازي مع تقدم &"غير المنتمي&"، وهذه الظاهرة الإلحادية سعى إلى تحليلها الكثير من علماء الاجتماع.
لكن دراسة &"بيو&" تذهب أبعد وأدق مما فعله غيرها. فعلى مئتي صفحة، فضلاً عن الملاحق، وصف الباحثون التطورات الداخلية والخصائص الديموغرافية لكل جماعة دينية وكيف يتطور الشعور بالانتماء فيها على المستوى الجغرافي والثقافي والجيلي. ومن نتائج الدراسة:
- انخفاض عدد الذين يعتبرون أنفسهم مسيحيين: كانوا 178 مليوناً عام 2007 وأضحوا 172 مليوناً عام 2014.
- الكنيسة الكاثوليكية تواجه الانخفاض الأكبر في تاريخها، إذ كانت نسبة الكاثوليك 23.9٪ عام 2007 وأضحت 20.8 العام الماضي.
- الانخفاض الأكبر في عدد المؤمنين يطاول البروتستانت &"التاريخيين&"، هذه النزعة التراجعية قائمة منذ عقود وليست مفاجئة لولا أن لا سابق لها. هؤلاء &"التاريخيون&"، كما يطلق على &"الميثوديين&" و&"اللوثريين&" و&"الانغليكانيين&"، تراجعوا من 18.1٪ عام 1997 إلى 14.7٪ اليوم. فقط البروتستانت السود بقي عددهم ثابتاً نحو 61 مليوناً.
- تؤكد الدراسة ارتفاع عدد الملحدين وغير المؤمنين، وأولئك الذين لا ينتمون إلى أي طائفة أو دين، لا سيما في صفوف الجيل الجديد. يبلغ عدد هؤلاء اليوم 56 مليوناً بعد أن كان 36.6 مليون عام 2007. وبات عدد هؤلاء أكبر من عدد الكاثوليك والبروتستانت &"التاريخيين&"، رغم أن نسبة الملحدين كلياً تبقى ضعيفة (٤٪) حتى بعد ارتفاعها عن عام ٢٠٠٧(3٪). ويقول الباحث الجامعي لوريك هينيتون إن سبب هذا الارتفاع لنسبة الملحدين وغير المنتمين لطائفة هو عدم إيمانهم بالمؤسسة الدينية، وليس بالدين نفسه. ينبغي ملاحظة أن الأديان غير المسيحية سجلت ارتفاعاً طفيفاً عن عام 2007، وهي البوذية والإسلام واليهودية والهندوسية.
في تحليلها للظاهرة الدينية تقول الباحثة أيما غري في صحيفة &"ذي إتلانتيك&" إن الدين لم يمت في أميركا، ولكنه أضحى أكثر تعقيداً وعصية على الفهم لأن الناس باتوا يفضلون القيام بخياراتهم بأنفسهم. فقط عشرة في المئة من الأميركيين يقولون إن الدين لا أهمية له.
محللون آخرون يشددون على التداعيات على المستوى السياسي، فالكتل المسيحية التقليدية لم تعد تحظى بالأهمية نفسها وبالتالي تقلص دورها في السياسة. على سبيل المثال لطالما كان الحزب الديمقراطي يأخذ بعين الاعتبار حساسية ناخبيه المسيحيين المؤمنين، لكن من الآن وصاعداً سوف يتراجع اهتمامه بهم لأنه سيبحث عن ناخبين في صفوف الشباب غير المنتمين لدين أو كنيسة. أما الحزب الجمهوري فلم يعد من المؤكد أنه سيستمر في رهانه التقليدي على المسيحيين الإنجيليين المحافظين وأجنداتهم الاجتماعية، ما يعرّض علاقته بهم إلى الاضطراب.