جريدة الجرائد

عن قناة السويس

-
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

يوسف القعيد

في السادس من أغسطس الذي يهل علينا بعد أيام سيكون لدينا ما قبل هذا التاريخ وما بعده، سيشكل فاصلاً مهماً في حياتنا. ولأنني أفكر في الأشياء المرتبطة بالناس، فإن القناة بالنسبة لي لا تعد كما يصفها علماء الجغرافيا بتعبيراتهم الجامدة مجرد مجرى ملاحي، لكنها جزء جوهري من حياتنا ما مر منها، وما نعيشه الآن، وما هو آت.

أعرف أن مكان الاحتفالات بمنصاته الثلاثين قد يتركز في الإسماعيلية. إنه الاحتفال الذي يصل الماضي بالحاضر، ليجعل المصري ينظر وراءه ويقول لنفسه: ما أجمل تلك الأيام. ويحاول أن يجعل من حاضره امتداداً لماضيه، عبوراً بما يعيشه باعتبار أن التاريخ حلقات متواصلة ومستمرة.

ترتبط قناة السويس في وجداني بمدن ثلاث: بور سعيد، الإسماعيلية، ثم السويس، ولهذه المدن مساحة في حبة القلب أمس واليوم وغداً. في مواجهة العدوان الثلاثي كانت بورسعيد عنواناً على الكبرياء الوطني، وأيامها عندما كان الإنسان يقابل مواطناً بورسعيدياً كان ينظر إليه كأنه كائن من نوع خاص. كنت أهمس بمجرد أن أراه: أبقاك الله.

بورسعيد جزء من الوجدان الوطني. ما من حرب من حروب التحرر الكبرى إلا وكان لبور سعيد مكان ومكانة فيها. رفضت العدوان الثلاثي. وقفت ضده. ضربت أمثلة للدنيا على الصمود والكفاح وقهر عدوان شاركت فيه إنجلترا وفرنسا والعدو الإسرائيلي.

إن الغناء من أساسيات العمران، وإن الإنسان الذي لا يستمتع بالغناء ولا يحب الغناء، لا بد أنه يعاني من خلل ما لا علاج له، ولو أنه استمع إلى شادية الغناء المصري والعربي في النصف الثاني من القرن العشرين وهى تغني:

- أمانة عليك أمانة/ يا مسافر بورسعيد/ أمانة عليك أمانة/ تبوس لي كل إيد/ حاربت في بورسعيد.

من يحب الفن لا يمكن أن يتطرف، وإن حب الفن يجعل محب الفنون يحب الإنسان، ويقبل على الدنيا، ويحافظ عليها، ويدافع عنها.

السويس حكاية أخرى، مدينة ولا كل المدن. مدينة تلخص وطناً. ذهبت إليها بعد حرب السادس من أكتوبر في أول يوم تم رفع الحصار عنها، وشاهدت ما لم يتوقع الإنسان أن يراه. وسمعت ما لم تسمعه أذن، وأحسست بما لم يخطر على قلب بشر. أعود مرة أخرى للغناء. وأسأل: متى نجد الوقت الكافي لنستمع لأغنية المرحوم محمد حمام:

- يا بيوت السويس يا بيوت مدينتي/ استشهد تحتك وتعيشي إنتي/ يا بيوت السويس يا بيوت السويس.

كان الشهيد الأول في 25 يناير 2011 من أبناء السويس. والشهيد الأول للثورة الثانية يناير 2013 كان من أبناء السويس. ويبدو أنه ثمة تعاهد بين المدينة وأبناء المدينة وفكرة الاستشهاد دفاعاً عن مصر. يبدو أن أرض السويس لم تشبع من الدماء. وكنت أتمنى أن ترتوى بدماء الأعداء إن فكروا في العدوان عليها، أما دماء أبنائها فيجب أن تكون مصونة، فيكفى ما قدم أهل السويس من تضحيات في كل حروبنا مع أعداء الوطن.

قناة السويس ليست مجرد مجرى ملاحي نحصل على أموال، بسبب مرور السفن فيه من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال، فقبل أن تجري فيه المياه، كانت دماء الذين حفروا القناة الأولى من فقراء الفلاحين المصريين قد ملأت المجرى. إن السخرة في حفر قناة السويس توشك أن تكون قصة متكاملة الأركان، لم تجد من يكتبها بعد.

ومازلت أذكر عندما جرى تهجير سكان مدن القناة إبان حرب الاستنزاف، ووصل إلى قريتي البورسعيدية، والسويسية والإسماعيلاوية، وقاسمونا البيوت ولقمة العيش والحلم بيوم يعودون فيه لبلادهم، بعد أن يكونوا قد انتصروا. يومها أدركت أن هذه المنطقة فيها جزء جوهري من عبقرية المكان المصري عندما تلتقى مع عبقرية زمان مصر، فينتجان معجزة المعجزات.

وفيلم: إسماعيلية رايح جاى. جسد العلاقة الفريدة بين المدينة الجميلة، المدينة الكوزموبولوتونية التي تعد عمارتها شاهداً على حلم الخديوي إسماعيل ومن جاؤوا بعده بجعل مصر قطعة من أوروبا. لا تسخر من الهدف، لأن حتى هذا الهدف الذي قد لا نتفق عليه. مصر يجب أن تبقى مصر قبل أي اعتبار آخر. لكن هذا الكلام جعلهم يتركون لنا مدينة تحب أن تتمشى في شوارعها، وأن تشاهد مبانيها، وأن تصافح بعينيك كل المرئيات فيها.

قال عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته العبقرية، إن صناعة الغناء هي أول صناعات العمران، وإن انتهاء صناعة الغناء ينذر بانتهاء العمران نفسه.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف