جريدة الجرائد

العلمانية والإلحاد: رؤية مختلفة

-
قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

خالد الدخيل

السائد في الثقافة العربية الإسلامية هو أن العلمانية بذاتها كفر وإلحاد، أو سبيل مباشر إلى هذا المآل. يقول بذلك أغلب علماء ومفكري الإسلام. وعلى رغم شيوع هذه الفكرة، وتجذرها مع الوقت، فإن السؤال يظل يفرض نفسه: هل العلمانية هي في حقيقتها كذلك؟ الغريب أن من يرونها كذلك يستندون إلى تاريخ التجربة العلمانية في الغرب وإلى ما كتبه مفكرو الغرب منذ العصر الأول للنهضة الأوروبية وحتى وقتنا الحاضر. هل صحيح أن هذه هي النتيجة الوحيدة أو الأهم التي يمكن أن يخرج بها كل من قرأ ما كتبه أولئك عن العلمانية قبل وبعد تبنيها وتطبيقها على أرض الواقع؟ هل يمكن أن من قرأ تجربة العلمانية من هذه الزاوية إنما قرأها انطلاقاً من تحيزه الأيديولوجي، ولم يقرأها بعين من ينظر إلى الأمور والأحداث والأفكار كما هي، وكما تعبر عن نفسها، وليس كما يراها هو، أو كما تبدو له؟ هذا سؤال مهم لأن النتيجة التي انتهى إليها الفكر الإسلامي حول هذه المسألة لا يمكن أن تكون نهائية، والأرجح أنها نتيجة مغلوطة لا تتفق مع طبيعة العلمانية وأهدافها، ولا مع مسارها التاريخي.

&

لننظر إلى ما قاله تشارلز تايلور، أحد أبرز من تناولوا مسألة العلمانية من بين المفكرين الغربيين، وذلك في ورقة له بعنوان معنى العلمانية، أو The Meaning of Secularism. لا يتناول تايلور العلمانية في هذه الورقة انطلاقاً من الإشكالية نفسها التي نطرحها هنا &"العلمانية والإلحاد&"، لكنه يقترب منها وإن في شكل غير مباشر. فالفرضية التي ينطلق منها في أغلب كتاباته عن الموضوع أن العلمانية من حيث أنها فصل للدولة عن مؤسسة الدين ليست في واقع الأمر موجهة ضد الدين بحد ذاته، أو أنها تستهدفه من دون سواه من التيارات الفكرية والثقافية التي يكتنفها المجتمع. صحيح أن العلمانية، كما يقول، في كل نماذجها الغربية الحديثة تقريباً تنطوي على نوع ما من فصل الدولة عن الكنيسة. وهو ما يعني أن الدولة لا يمكنها أن ترتبط رسمياً بأي معتقد ديني معين من دون سواه، باستثناء الارتباط الرمزي الذي لا وظيفة حقيقية له، كما في بريطانيا وإسكندينافيا. لكن العلمانية، يضيف تايلور، تتطلب ما هو أكثر من عملية الفصل هذه. فالتعددية التي ينطوي عليها المجتمع تتطلب نوعاً من الحياد من الدولة في علاقتها بكل المكونات المختلفة، دينية أو غيرها. وبالتالي فإن متطلبات العلمانية أكثر تعقيداً من حصرها في مسألة فصل الدولة عن مؤسسة الكنيسة.

&

يستخدم تايلور ثلاثية الثورة الفرنسية (الحرية، المساواة، الأخوة) كنموذج للحياد الذي استقرت عليه - نظرياً على الأقل - الدولة الحديثة إزاء مكونات المجتمع الذي يخضع لسلطتها. فالحرية تعني في ما تعنيه حرية المعتقد. والمساواة تعني عدم تفضيل رؤية عقدية على غيرها. والأخوة تعني الانفتاح على رؤى كل المعتقدات في المجتمع، والاستماع إليها. من هذه الزاوية تبدو صعوبة التعامل مع العلمانية في أن النموذج الذي سيطر على السجال حولها هو ذلك الذي يحصر دلالتها في علاقة الدولة بالدين. في حين أنه في حقيقة الأمر يشير إلى الاستجابة (الصحيحة) للدولة الديموقراطية أمام مسألة التعددية في المجتمع وكيفية التعامل معها. والمعنى المقصود بـ&"حياد الدولة هو تحديداً تجنب تفضيل، أو عدم تفضيل، ليس فقط مواقف دينية، وإنما أي موقف مبدئي، دينياً كان أو غير ديني. لا يمكننا تفضيل المسيحية على الإسلام. في الوقت نفسه لا يمكننا تفضيل الدين على عدم الاعتقاد بدين، والعكس صحيح&". وإذا كان أساس الدولة الحديثة يرتكز على حقوق الإنسان، والمساواة، وحكم القانون، والديموقراطية، فإن كل مكونات المجتمع تتفق مع هذا الأساس، وإن كان كل مكون ينطلق في اتفاقه من أسباب تعكس رؤيته لهذه المسألة. فاتفاق المسيحي يختلف في منطلقاته ومسبباته عن تلك التي يأخذ بها من يتبنى فلسفة إيمانويل كانت، مثلاً، وصاحب الفلسفة النفعية يختلف في ذلك أيضاً، كما المسلم... إلخ. بعبارة أخرى، يتفق الجميع على الأساس، ويختلفون في منطلقاتهم ومرئياتهم لضرورة هذا الأساس. ودور الدولة في هذه الحال هو دعم هذا الأساس مع عدم تفضيل رؤية معينة له يتبناها هذا المكون أو ذاك.

&

لماذا إذاً ارتبطت العلمانية حصرياً بمسألة علاقة الدين بالدولة؟ يرى تايلور أن هذا يعود إلى تاريخها في الغرب. ويضرب مثالين على ذلك من التاريخ الفرنسي والتاريخ الأميركي. سأقتصر لضرورة المساحة على الأخير. يورد تايلور مثال التعديل الأول للدستور الأميركي باعتبار أن له دلالة مهمة بالنسبة لهذه المسألة، خصوصاً لناحية كيف بدأ، وكيف انتهى. يقدم تايلور هنا معلومة مهمة، وهي أن مفردة &"علمانية&" لم تظهر في العقود الأولى من الحياة العامة الأميركية، ما يشير إلى أن هذه الإشكالية لم تكن قد فرضت نفسها آنذاك بعد. ومع ذلك فإن التعديل الأول يتعلق بفصل الكنيسة عن الدولة، ما فتح الباب أمام إمكان إعطاء الدين في الحياة السياسية الأميركية آنذاك (القرنين 18 و19) مكاناً لا يقبل به أحد في أيامنا هذه. يدلل على ذلك بمجادلة لأحد قضاة المحكمة العليا (اسمه جوزيف ستوري) في ثلاثينات القرن 19 يقول فيها: &"بما أن التعديل الأول يحرم ربط هوية الحكومة الفيديرالية بأية كنيسة بعينها، وبما أن جميع الكنائس المعنية هنا مسيحية (بروتستانتية)، فإنه بإمكان أي أحد أن يستحضر المبادئ المسيحية لتفسير القانون (أو الدستور في هذه الحال)&". بما أن هدف التعديل الدستوري الأول بالنسبة لهذا القاضي يقتصر على استبعاد التنافس بين المذاهب المسيحية، فإن &"المسيحية يجب أن تحظى بتشجيع الدولة&". لماذا؟ لأن هيمنة الإيمان المسيحي على الثقافة الأميركية آنذاك، توجب عدم الاستغناء عنه، في نظر هذا القاضي، لإدارة العدالة في المجتمع. بل إن حكماً صدر عن المحكمة العليا بالإجماع عام 1892 نص على أن الولايات المتحدة &"أمة مسيحية&". ويبدو أن هذا القرار صدر في خضم معركة اندلعت بعد العام 1870 بين أنصار هذا التيار، وآخر مناهض له، يطالب بالانفتاح على الأديان الأخرى وغيرها من التيارات غير الدينية. نعرف الآن أن التيار الأخير هو الذي انتصر في نهاية المطاف.

&

ما هي الدلالة التي ينطوي عليها هذا المثال التاريخي؟ أولاً أن التعديل الدستوري لم ينص على فصل الدين عن الدولة، وإنما فصل الدولة عن الكنيسة، أي فصل مؤسسة دنيوية عن أخرى دينية. ثانياً أنه صدر في ظل هيمنة مسيحية بكنائس متعددة، وكان هدفه ضمان حياد الدولة أمام هيمنة هذه المكونات الدينية للمجتمع. وهذا بحد ذاته دليل على أن عملية الفصل كانت استجابة للتعددية بالصيغة التي كانت عليها آنذاك، ولم تكن موجهة للدين بحد ذاته، أو تعبيراً عن توجه إلحادي معاد للدين. بعد ذلك فرض تطور المجتمع الأميركي اتساع دائرة التعددية لتشمل أدياناً ومذاهب أخرى (الكاثوليكية، واليهودية ثم الإسلام، وغير ذلك كثير)، لتصبح مشمولة بمنطق التعديل ذاته، أو الحياد ولو من الناحية القانونية، وليس دائماً من الناحيتين الثقافية والسياسية. أصبح من الممكن أن يكون هناك رئيس أميركي كاثوليكي، وتحسنت هذه الفرصة بالنسبة للمكون اليهودي، لكن ليس للمكون المسلم بعد. ولعل الدلالة الأهم لتاريخ التعديل الدستوري الأول وما استقر عليه حتى الآن أن العلمانية في حقيقتها ليست أيديولوجيا، أو عقيدة في مقابل أيديولوجيا أخرى. استوعب التعديل في بدايته مكونات المذهب البروتستانتي كمكون مهيمن. ثم استوعب كل ما استجد من مكونات تبعاً لنمو وتطور المجتمع الأميركي. وهذا يعني أنه لو كان المنطلق العلماني للتعديل منطلقاً أيديولوجياً لما كان في وسعه استيعاب كل التيارات السياسية والأيديولوجية التي جاءت بعد تدشينه بأكثر من قرن ونصف القرن. في هذا الإطار أصبح المسيحي علمانياً، وكذلك اليهودي والمسلم والليبرالي والاشتراكي... إلخ. وبما أن العلمانية ليست أيديولوجيا، فإنها لا يمكن أن تعني الإلحاد، لأن الأخير موقف فكري أيديولوجي. إذا لم تكن العلمانية أيديولوجيا، فماذا عساها أن تكون؟ هي آلية دستورية لتحييد الدولة لتمكينها من إدارة التعددية في المجتمع بهدف تحقيق المساواة والعدالة وحكم القانون للجميع. ولهذا حديث آخر.
&

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
مطلوب نموذج فكري مستقل 1
غسان -

أختلف الى حد كبير مع طروحات الكاتب، أو بالأحرى مقولات تشارلز تايلور، وكنت أحبذ من الكاتب تقييماً انتقاديا من منظور عربي اسلامي لا موقفاً استهلاكياً من الأفكار الغربية المتأثرة بالتاريخ والثقافة الغربية. بداية، أعتقد بأن العلمانية هي "مفهوم خلافي بالضرورة" بتعبير الفلاسفة الغربيين، أو بتعبير شرقي هي "حمالة أوجه"، كل كاتب ينظر اليها من زاوية مختلفة متباينة. لماذا؟ لأنها جوهرياً مفهوم "معياري" يرتبط بما "يجب ان يكون عليه الوضع" فيما يتصل بالعلاقة بين الدين ومؤسسات الدولة ودور الدين في الشأن العام. فالاشتراكي له منظور مختلف للعلمانية عن الرأسمالي وأقرب الى الالحاد، والليبرالي يمتلك مفهوم مختلف عن الاسلامي، وهكذا. وبطبيعة الحال، فان أي مفهوم معياري شمولي يصعب ان لم يستحيل تعريفه بصورة موضوعية وعلمية ومحايدة، مثله مثل "التنمية" و"التقدم" و"الديمقراطية" و "الحرية" و"العدالة"!..

حيادية الدولة العلمانية؟
غسان -

القضية الثانية التي أود طرحها هي ما لخصها الكاتب الكريم بقوله "وما استقر عليه حتى الآن أن العلمانية في حقيقتها ليست أيديولوجيا، أو عقيدة في مقابل أيديولوجيا أخرى". بداية أرى بأن الاجماع غير حاصل في واقع الأمر، على الأقل ليس كما قد يحب البعض ان يعتقد. عدم حيادية العلمانية الغربية قضية واسعة وهامة، لكني أكتفي هنا بالنقاط التالية. بداية يعترف االكاتب بان اتساع دائرة التعددية لم تشمل الاسلام بعد، عندما قال "تحسنت هذه الفرصة بالنسبة للمكون اليهودي، لكن ليس للمكون المسلم بعد"!.. لماذا ؟ وأين المشكلة؟ ولم الاستبعاد؟ وما مبرر الاستثناء؟ وأين اسسه المنطقية؟ وهل هنالك حيادية "جزئية"؟ أين الحيادية المفترضة بين الأديان في الواقع وليس في النظرية؟. ثانياً، هنالك اشكالات عملية في تطبيق الحيادية من قبل الدولة التعددية، سيما في حالة الدول القريبة من حالة الاخفاق أو الفشل أو في طور التحول. فالسياسة العامة هي غالباً توجه منفرد، فلا يعقل سياسة عامة تتقلب شهرياً حسب رأي كل جماعة أودين. هذا تناقض وشلل وفوضى في السياسة العامة. وهو في حالة الدول الفاشلة أو على شفير الفشل وصفة سيئة للاصلاح وربما توصية بالانتحار. ثالثا وأخيرا، هل العلمانية أشمل أم الاسلام؟ برأيي الأسلام الحق والصافي أشمل ويدعم ذلك وثيقة المدينة المنورة بما تتضمنه من تشاركية وخصوصية في بناء الأمم. في الاسلام هنالك حيادية للدولة بين المذاهب الفقهية المتعددة ولكن ليس في القطعيات المحدودة.

elle donne a chacun de cr
jamal -

la laicité c la neutralité de l''état envers tt les courants religieux ou philosophiques,elle est de la même distance de tt ce qui existe dans le pays sans donner raison àune religion audétriment de l''autre mais selon ceque dictent les lois la laicité ne s''intersse pas à ce que un courant le qualifie ou l''évalue.

الى اين سائرون
ولد قطر -

سؤال واحد———–ماذا استفاد العرب–من الحركات الاسلامية–المتشنجة 24 ساعةيعني مافي بلد به هذه الجماعات الا مشاكل وعنف وتخلف—هل العرب كتب عليهم-العيش على فكر ونصوص -كتبت فسرت بالقرون الوسطى–من يريد الدين لن يمنعه احد بالتعبد–لكن اجندات دينية الان -لن ولن تنتج الا الذي قلته–كفى شعارات –نحتاج لنهضة ثقافية علمية قوانين مدنية تليق بالانسان العربي ومستقبله مش رجوعه لعصور الظلام والجهل وبول البعير والمرأة ماذا ترتدي–وكأن القطعة على الرأس انجاز-حتى اصبحنا امة عصبية متشددة بحياتها–حتى معاني الحياة وفهمها موجودة بالقواميس فقط–علينا توعية المجتمعات—-الصين كانت تعيش بالمخدرات والتخلف بكل شيء لكن الحركات الوطنية–لا الدينية نهضت بهم—والان عملاق انتاجي-اقتصادي-علمي–لن يمنعوا الان باعتناق الفكر البوذي —لكنا عندنا من لا يصلي يقتل–وهذا حصل بفتوى بقناة فضائية عندما سأل ووظف الشيخ الديني -اجابه ان يستتب اذا لم يتراجع يقتل--—هذا مستوى الامة–لايفرقون بين حق الانسان وتعاليم اختزلت بعقول المتشددين—

العلمانية لاتعني الكفر !
علي البصري -

العلمانية تعني الوقوف مسافة واحدة من الاديان والمذاهب (الحياد) والحفاظ واحترام عقائد الناس وابعادها عن التسيس وهذا هو عين العقل فالدين لله والوطن للجميع وهذا مفيد لنا في الشرق الاوسط فقد ركب الارهاب حصان الدين وارتكب الاجرامات والقتل باسم الله ،مشكلتنا الان نحن في موظة نحتاج لعقد حتى تتغير هذه الموظة ويقتنع الناس انها وبال ووباء اكثر شراسة من كل الاوبئة والامراض ثم نعود لرشدنا وعقلنا ،نعم للديمقراطية وحقوق الانسان والصحافة الحرة واستقلال القضاء لكن كل ذلك يحتاج لوعي وشعوب واعية وهذا ماتفتقده منطقتنا للاسف الشديد ،صحيح ان اسرائيل الدولة الوحيدة في الشرق الاوسط ديمقراطية لكنها تمارس ابشع ارهاب بحق غيرها من الشعوب.

منطلقات العلمانية الغربية
غسان -

العلمانية الغربية وبعد ان طلقت الكنيسة طلاقاً بائناً لا رجعة فيه لأسباب متعددة وقوية، ولأن العقل الغربي علم ان "العقائد" عموماً لا يمكن اثباتها بصورة عقلانية مطلقة وليس بالامكان نفيها كذلك بصورة موضوعية نهائية، ادعت ان الحل هو بالوقوف حيادياً بين الدين الحق ودين عبادة الشيطان! مقابل ذلك كله، وبالتركيز على الامة العربية، نجد ان الظروف والتاريخ مختلف بشكل كبير، ولا تنطبق علينا مسلمات وافتراضات العلمانية الغربية.

ما نتائج
تطبيق العلمانية عندنا؟ -

يا أخ علي، طبقت الدول العربية المبادئ العلمانية بدرجات متفاوتة خلال العقود الممتدة الماضية، مع التنويه بتجربة سوريا وتونس الرياديتين، فما هي المحصلة النهائية؟ الووطن الفاشل للجميع والدين الحق لله.