صدمة جاستا والأخطر منه
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
صالح زياد&&
علينا أن نعيد بناء اقتصادنا بحسابات جديدة، وأن نصلح ثقافتنا وننأى بها عن التعصب والضيق، وننفتح بها على العالم وعلى العصر انفتاحا واعيا واثقا. علينا أن نبرهن للعالم أننا ضد ما تريد أميركا أن تلصقه بنا
كان شعورٌ بالصدمة والمفاجأة ساريا في المجتمع السعودي ليلة الخميس الماضي تجاه إقرار الكونجرس الأميركي، بمجلسيه الشيوخ والنواب، بشكل نهائي قانون "العدالة ضد رعاة الإرهاب" "جاستا" الذي يتيح مقاضاة المملكة عن هجمات سبتمبر 2001، وذلك على الرغم من أن التوقعات لم تكن &-إجمالا- تنتظر إلا تلك النتيجة.
ولعل السبب في ذلك الشعور كامن في دلالة التحول والانكسار التي تنذر بها تلك اللحظة، بعد تاريخ طويل من العلاقات الحميمة والاعتماد المتبادل الذي جعل المملكة مصدر أميركا الرئيسي للطاقة، وجعل أميركا في المملكة مصدرا أساسيا للسلع التجارية والسلاح والخبرة والتأهيل العلمي.
وقد يكون شعور الصدمة والمفاجأة ناتجا عن عدم واقعية القانون ولا معقوليته، فهو يخرق حقوق السيادة المقررة في القانون الدولي، ويعود بأثر رجعي إلى حدث مضى عليه 15 عاما، ويناقض ما انتهت إليه لجنة التحقيق الأميركية المستقلة التي برّأت حكومة المملكة في ذلك الزمن القريب من حدوث الهجمات، لعدم توافر الأدلة على الاتهام.
ولا تنفصل الصدمة والمفاجأة في هذا وذاك، عن الشعور بالابتزاز، الشعور الذي ينتج عن استخدام مسلك التهديد والضغط أو الغدر والاحتيال والغموض للتكسب وسلب المال وانتزاع المنافع.
وهذا شعور يختلط فيه الألم بالتأنيب للذات على استئمانها من ليس أهلا للأمانة، واطمئنانها إلى وفائه وعدله وأخلاقياته، وعدم تحسبها لتقلب مزاجه، أو نوازع نقمته وعدوانه. وأتصور أن تباين المواقف داخل أميركا نفسها تجاه القانون، يتصل بما صنعه الإقرار النهائي له، الصادر من الكونجرس لدى السعوديين من شعور بالصدمة والمفاجأة والغموض والابتزاز.
ذلك أن مواقف الأميركيين متباينة بشكل حاد بين أقصى درجات الحماس للموافقة عليه، وأقصى درجات التحذير من خطورته. ومن شأن هذا التباين أن يجعل إقراره موشوما بأغراض دعائية سياسية، قيل إن كسب الناخبين من جهة التعاطف مع عوائل الضحايا أهمها، ولكنه تسبيب لا بد أن يثير التعجب من اجتماع الأميركيين كلهم أو أغلبهم عليه "لنتذكر نتيجة التصويت الساحقة"، ولماذا فقدت الأصوات المعترضة على إقراره القدرة على الإقناع والتأثير؟! ولماذا جاشت مشاعر التعاطف مع عوائل الضحايا الآن؟! وما الأدلة التي تكشّفت حديثا؟!
الرئيس الأميركي باراك أوباما كان على رأس المعترضين على القانون، واستخدم حقه الرئاسي الذي يخوله نقض قرار الكونجرس، قبل أن يحقق الأخير الأصوات اللازمة لإفشال فيتو الرئيس.
ومع أوباما كان وزير الدفاع أشتون كارتر، ومدير الاستخبارات المركزية جون برينان، وغيرهما من أعمدة الإدارة الأميركية. إضافة إلى الخبراء والمحامين وكثير من الإعلاميين والوكالات والفضائيات والصحف ورجال الأعمال، والاتحاد الأوروبي وغيره، الذين انتقدوا القانون بأشكال مختلفة. ولعلنا نقف قليلا عند السؤال الذي ختمت به نيويورك تايمز افتتاحية عددها الصادر الخميس الماضي، اليوم التالي لإقرار الكونجرس النهائي للقانون، وكان بعنوان: "المخاطر في مقاضاة السعوديين عن 11/ 9". فقد تساءلت الصحيفة في خاتمة افتتاحيتها تلك، هكذا: "الرغبة في مساعدة أسر ضحايا 11/9 مفهومة.. والسؤال هو: بأي ثمن؟!".
وهو سؤال يوازن بين الهدف المعلن للقانون والمخاطر الناتجة عن تحقيقه، إلى درجة يتحول فيها هدف العدالة والتعاطف الإنساني إلى اقتراف ما هو بالضد منه تماما.
وقد مضت افتتاحية الصحيفة إلى رصد ما يملأ كفتي الموازنة بين المخاطر المترتبة على القانون والمصالح التي يحققها.
فالقانون يعقِّد علاقة الولايات المتحدة بالسعودية، ويعرِّض الحكومة الأميركية والمواطنين والشركات إلى دعاوى قضائية في الخارج، والخبراء القانونيون يشككون في أنه سيحقق فعلا الغرض منه.
وبإزاء ذلك فإن القانون -فيما تقول الصحيفة- "يهدف إلى التغلب على سلسلة من قواعد المحكمة التي عرقلت جميع الدعاوى المرفوعة من عائلات ضحايا 11/9 ضد الحكومة السعودية".
وتعيد القول ذاته في أن 15 من 19 من خاطفي الطائرات التي استخدمت في الهجمات كانوا سعوديين، وتمضي إلى وصف المملكة بأنها "موطن المدد الأصولي للإسلام الذي ألهم العديد من المتطرفين".. إلخ.
ولم تغفل افتتاحية الصحيفة عن التنبيه إلى تقرير اللجنة الأميركية المستقلة التي حققت في الهجمات، حين أثبتت عدم وجود أي دليل على تمويل الحكومة السعودية للإرهابيين. كما لم تغفل عن شراكة المملكة لأميركا في الحرب على الإرهاب، ولا عن الأضرار الاقتصادية التي ستطال أميركا.
وبذلك كان السؤال -في ختام الافتتاحية- عن الثمن الذي تدفعه أميركا في معنى الشعور بفداحته.
لكن المتابع لا بد أن يتوقف مليّا عند تخصيص الصحيفة للمؤسسة الدينية السعودية بنسخة متطرفة من الإسلام، وعزوها إليها انتشار التطرف، وهذا موضوع شائع في الغرب عموما، وقد أفردت له نيويورك تايمز نفسها مقالة مطولة بقلم سكوت شين في 25/ 8/ 2016، أي قبل تصويت الكونجرس الأول على القانون بمدة وجيزة جدا.
وفي نص القانون تكرار وتأكيد على وجهته إلى معاقبة "الحض" و"التحريض" والتأثير "غير المباشر"... وما يشبه ذلك مما هو موجَّه إلى ما تسميه الصحيفة "نشر التطرف".
ولا أحد يكابر -فيما أحسب- في الحاجة إلى ترسيخ روح التسامح في المذاهب، والقبول بالاختلاف والتعدد، ونبذ لغة الكراهية المتبادلة.
وإذا اطمأننا إلى أن هذا مطلب سعودي كما هو مطلب إنساني، فإن الحديث عن التشدد والتطرف في هذا الصدد ليست له علاقة بالإرهاب كما تجلى في 11/ 9 وكما نعانيه الآن.
فالمؤسسة الدينية السعودية قائمة منذ قيام الدولة السعودية، ولم يعرف العالم الإسلامي ولا الغربي الإرهاب إلا بعد "الجهاد" الأفغاني ضد السوفيت، والذي حرّضت عليه أميركا وقادته وأسهمت جوهريا في صناعته. ومن العجب أن أكثر الجنسيات تجنيدا في "داعش" حاليا هي تونس، البلد الأكثر علمانية وانفتاحا على أوروبا، والأبعد عن تأثير المملكة.
أما أكثر ما يلفت النظر بعد إقرار "جاستا"، فهو سريان مواجهة محمومة بين التيارات الفكرية السعودية تنحو إلى تبادل اللوم وتقاذف الاتهام، وإلى جانبها خطاب متوتر يميل إلى لغة عنيفة تنم عن الكراهية والتحدي لأميركا، وإلى إنكار أي أثر محتمل على المملكة من القانون، استخفافا به وتهوينا من شأنه.
ولم يخل الجو &-في مقابل ذلك- من خطاب التضخيم لأثره في لغة هازئة وشامتة حينا أو مستشعرة الفزع والفجيعة حينا آخر.
وهذه كلها مواقف غير نافعة، بل لا بد من أن تحدث ضررا قد يتفاقم إلى ما هو أخطر. وبدلا من التلاوم والاستخفاف بالقانون، أو حسبانه مصيبة لا قبل لنا بها، علينا أن نعمل معا في أكثر من مستوى: علينا أن نعيد بناء اقتصادنا بحسابات جديدة، وأن نصلح ثقافتنا وننأى بها عن التعصب والضيق، وننفتح بها على العالم وعلى العصر انفتاحا واعيا واثقا.
علينا أن نبرهن للعالم أننا ضد ما تريد أميركا أن تلصقه بنا.. والله المستعان.
&
&