عبدالحق عزوزي: رجل السياسة وفضاء الثقافة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
رجل السياسة وفضاء الثقافة
عبدالحق عزوزي
للعالم والسوسيولوجي الألماني ماكس فيبر (1864- 1920) توجيهات قيمة للإنسان السياسي الذي عليه أن يتمتع في نظره بثلاث صفات محددة لكي يصل بالمجال السياسي العام إلى بر الأمان: الشغف، والشعور بالمسؤولية، وبعد النظر... وفي يومنا هذا، وكما كان في أيام «فيبر»، فالشغف، يعني الانكباب على المشاكل ومعالجتها بشغف ودراية، وليس بجهل وبلادة في كارنفال عقيم يطلق عليه اسم «الثورة» وفي إطار «رومانسية تدور في الفراغ»، ولا يمكنها أبداً أن تؤتي أكلها ولو بعد حين، وخاصة عندما تغيب المسؤولية وتقوى المصالح الذاتية الآنية على مصالح البلد. ثم يضاف إلى هذا كله بعد النظر، وهو مَلكة وتجربة ودراية وقوة وقدرة وصفة حاسمة عند السياسي لو تمتع بها العديد من بناة المجال السياسي العام الجديد في بعض الأوطان العربية لنجحت مؤسساتها. فـ«فيبر» يرى أن انعدام المسافة مع الأشياء والناس هو أحد الأخطاء القاتلة بالنسبة إلى كل من يتعاطى السياسة، وهو إحدى الصفات التي يؤدي انغراسها في بعض الأجيال الجديدة من المثقفين إلى الحكم عليهم بعدم القدرة على العمل السياسي، وللأسف الشديد فبناة المجال السياسي العام في بعض الدول العربية ينظرون إلى المظاهر والظلال والسطحيات ويتغاضون عن الحقيقة الكينونية للأمور.
هذا من جانب، وهناك جانب آخر يشد انتباهنا أيضاً هو ما نراه في العالم الغربي، علاقة السياسيين بالفكر وبالأخص بالكتاب، وهي العلاقة الغائبة في أوطاننا العربية... ففي الدول المتقدمة يكون الكتاب وسيلة لوصول رجل السياسة إلى عقول الناخبين والتأثير في قراراتهم وتأطيرهم ومحاولة إنشاء قاعدة انتخابية وتعاطف بشري قل نظيره وهي قمة الفكر والتجاوب بين الفاعل السياسي والناخب، وهو يدل أيضاً على نضج الفاعلين معاً. فنجد مثلاً في التجربة الفرنسية الرئيس السابق نيكولا ساركوزي يصدر مؤخراً كتاباً بعنوان «فرنسا من أجل الحياة» لاستمالة الناخبين في حزبه وفي فرنسا. إذ أصر في الكتاب، وهو الذي تولّى السلطة قبل وقت قصير من بداية أزمة اقتصادية عالمية وانكماش اقتصادي حاد، أنه كان يتعين عليه التحرّك بشكل أسرع لإنعاش الاقتصاد الفرنسي بإجراء إصلاحات مثل ذلك القانون الذي يفرض رسمياً 35 ساعة عمل أسبوعياً. ويقول إنه كان من الأولويات الأخرى إلغاء ضريبة الثروة في فرنسا وكذلك خفض ضريبة الدخل وضمان عدم ارتفاع ضريبة الأرباح على الشركات في فرنسا عن المتوسط الأوروبي.. والرئيس الحالي فرانسوا أولاند سبق له قبل ترشحه للانتخابات الرئاسية أن أصدر كتاباً سماه: «الحلم الفرنسي»... وغيرهما كثير، إذ إن الساسة على قناعة بأن الممارسة السياسية الحقيقة تقوم على تصورات نظرية مؤطرة فكرياً.
ولقد أجاد الكاتب عبدالله بوصوف عندما دعا السياسيين المغاربة إلى التصريح بممتلكاتهم الفكرية، وأشار إلى أن الكتاب أصبح يُشكل عُنصراً مهماً يؤطر الفضاء الخاص بتحسين صورة السياسي لدى الرأي العام، ولذلك يحرص العديد من القادة السياسيين على أخذ صورهم الرسمية أو العادية في رحاب المكتبات أو بخلفية مليئة بالكُتب أو حاملين كُتباً لقامات فكرية، أو على الاستشهاد بآراء كُتاب وأدباء... وغير ذلك. حتى إنه يمكن القول إن السياسي لا يُمكنه العيش (سياسياً طبعاً) دون الاقتيات من الإنتاج الأدبي والفكري، لأن الكثير منهم يعتبر الكتاب مصدر إلهام كالرئيس الأميركي بوش، أو يُقدم نصائح وتصورات لتبرير السياسة كالرئيس ريغان، وآخرون يرون في الكُتب علامة على العمق الفكري والغنى الروحي، وهناك من القادة من يرون فيها فضاء لهروب فكري افتراضي بعيداً عن تشعب مشاكل الواقع! فالكاتب الأميركي جاك لندن، مثلاً، أثرت كتاباته كثيراً في المعسكر الاشتراكي، بل إنه كان الكاتب المفضل للرئيس السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، أما فيديل كاسترو فقد اتخذ من الروائي الأميركي أرنست هامينغواي صديقاً كبيراً، وجعل من بيته بكوبا محراباً فكرياً لكتابة أشهر كتبه «العجوز والبحر».
إن الحاجة إلى المثقف الكاتب والسياسي المنظر ذي الشغف والمسؤولية وبعد النظر، تبقى حاجة قائمة وراهنة، بل هي ضرورة اشتدت وتعاظمت بتضخم النكسات والهزائم التي كبلت الكيان العربي شعوباً وأجيالًا، ثقافة وسياسة.
ستحس بالنضج السياسي في الأوطان العربية عندما يأتي يوم نجد فيه السياسيين يكتبون ويؤلفون ويتبارزون على أفكار عليها الخلاص لشعوبهم بعيداً عن التراشقات الكلامية والشعارات الرنانة والشعبويات الزائفة... نتمنى أن يأتي اليوم الذي نجد في البرلمانات والحكومات قامات سياسية مثقفة تنظر وتعمل، ونتذكر ماكيافيلي عندما ألف كتابه «الأمير» وقاعدته الشهيرة «الغاية تبرر الوسيلة»، حين يغيب الاعتبار الديني أو الوازع الأخلاقي.. فيرد عليه أنطونيو غرامشي بكتاب «الأمير الحديث»!