جريدة الجرائد

إمبراطورية الفزع .. إرهاب الأفراد أم إرهاب الدول؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

محمد طيفوري  

لا يكاد يوم ينقضي دون أن يتردد صدى كلمة "الإرهاب" عشرات المرات على مسامعنا، أو تمر أحرفها كوميض البرق أمام ناظرينا. وهكذا تطبع الناس مع هذا المفهوم الهلامي الذي قدمت من أجل تحديده؛ وفق الكاتب أليكس شميد (Alex Schmid) في كتابه "الإرهاب السياسي"، عشرات التعريفات إن لم تكن المئات دون أن توفق في ذلك.

يخلُص في نهاية مبحث كامل في الكتاب أفرده للتعريف إلى قيام شبه إجماع بين مختلف الباحثين (الموضوعيين)، ممن اشتغلوا بالموضوع على كون الإرهاب مفهوما ملتبسا، لا بل إنه تجريدي بلا جوهر حقيقي ذي دلالة. قبل أن يضيف أن أي طرح يدعي تقديم تحديد واحد لهذا المفهوم- على الرغم مما حظي به من اهتمام من لدن الساسة والقادة والمسؤولين في عديد من البلدان- لا يكفي البتة لحصر جميع توظيفاته في الواقع الحالي وربما حتى مستقبلا.

يقدم بريان جنكيز (Brian Jenkins) كبير مستشاري مؤسسة راند الأمريكية، وأحد المتخصصين في الإرهاب، تعريفا مقتضبا جدا للمفهوم يفيد بأنه: "يقوم على جملة من الأفعال المحددة، التي تهدف بالأساس إلى إحداث الرعب والخوف". ويعرفه آخرون بقولهم إنه: "الاستخدام أو التهديد باستخدام عنف غير عادي، وغير مألوف لتحقيق غايات سياسية. وأفعال الإرهاب عادة ما تكون رمزية لتحقيق أثر نفسي أكثر منه مادي".

ونجد أن اتفاقية "جنيف لمنع ومعاقبة الإرهاب" التي عُدت أول محاولة قانونية دولية للتشريع حول الإرهاب، التي تداولت بخصوص موادها 22 دولة منضوية تحت لواء عصبة الأمم سنة 1937، دون أن تدخل حيز التنفيذ؛ بسبب اكتفائها بالتوقيع دون المصادقة. فحتى هذه الاتفاقية لم تطرح تعريفا قانونيا لمفهوم الإرهاب، وإنما عمدت في المادة الثانية إلى تقديم سرد لأعمال تُشكل تهديدا للأمن والاستقرار، التي يمكن أن يلحقها توصيف الإرهاب.

أليكس شميد: تطبع الناس مع مفهوم هلامي للإرهاب.

الخلاصة إذن أن الإرهاب يقض مضاجع الأفراد والجماعات، ويفعل ذلك عمدا؛ فهذا الهدف منه، ولهذا السبب شغل جانبا كبيرا من اهتمامنا منذ بداية الألفية الثالثة إلى الآن. لذا تتجه أغلب المحاولات التي قدمت بشأن تعريفه إلى إقامة ترابط حتمي بين الإرهاب والخوف والفزع، حتى إن كانت صور الشعور بعدم الأمان كثيرة، لكن يبقى الإرهاب أكبرها على الإطلاق.

تغيير زاوية النظر إلى المفهوم، أو الظاهرة إن صح هذا القول، يكشف الغابة التي تخفيها الشجرة، ويفضح المستور في التعاطي إعلاميا وسياسيا وأكاديميا مع هذه القضية الشائكة، والازدواجية التي تم تكريسها عند التعامل معه. فمدار الحديث كله مرتبط بإرهاب الأفراد الذي تحوَّل مع الصورة النمطية للإعلام والسياسية الغربيين إلى رديف للإنسان العربي والمسلم، دون أن يهتم أحد لإرهاب دول بكاملها ضد شعوب دول أخرى.

 ألم تجمع التعاريف بأن المقصد من وراء العمل الإرهاب هو الترويع، وبث الفزع في صفوف الناس، ما يعني بالاستلزام أن كل عمل يتحقق من ورائه هذا الأمر يجوز وضعه في خانة الإرهاب. لكن ما أكثر الأحداث والوقائع التي نعيش أطوارها في هذا العالم على مدار اليوم والليلة، دون أن ينبس محاربو الإرهاب تجاهها ببنت شفة أو تتحرك القوى الدولية للتصدي لها.

لقد أرهبت أمريكا المواطنين الأفغان على طول البلاد وعرضها، جراء العدوان الأمريكي على هذا البلد في أكتوبر (تشرين الأول) 2001، الذي خلَّف وراءه رقما ثقيلا بلغ 150 ألف قتيل، وفق آخر تقارير معهد واطس للدراسات الدولية. ثم جاء الدور بعد ذلك على العراق في آذار (مارس) 2003 حين اختارت واشنطن الهجوم العسكري، الذي أتى على حياة أكثر من نصف مليون مدني وفق إحصائيات غير رسمية (مجلة لانيست الطبية)، بعدما إنهاك البلد بالإرهاب الاقتصادي من جراء سياسية التجويع والحصار (القوة والإرهاب: جذورهما في عمق الثقافة الأمريكية/ نعوم تشومسكي).

تدخلت فرنسا راعية الحريات والسلم بالعالم في أكثر من بلد إفريقي سرا وجهرا؛ منذ جلاء استعمارها عن بلدان هذه القارة؛ فالأرقام تشير إلى أن تدخلات الجيش الفرنسي فاقت 50 تدخلا في أقل من ربع قرن. فما بين مالي والجابون وكودي فوار مرورا بنيجريا وإفريقيا الوسطى وصولا إلى ليبيا، ترتفع أعداد الضحايا في هذه البلدان من الأطفال والنساء والمدنيين، فيما يخفت صوت رعاة السلم ومحاربي "التطرف الديني"، لا بل يغض الطرف عن هذه الممارسات التي تبدو لهؤلاء من الضروريات. (كيف فقدت فرنسا إفريقيا/ ستيفان سميت، أنطونيو كلاسي).

غادر المارد الروسي من جهتة حدود إمبراطوريته النائمة، ليبدأ أولى محاولات عودته إلى واجهة الأحداث الدولية بالهجوم الإلكتروني على أستونيا في أيار (مايو) 2007، قبل أن يتحول إلى الواقع الميداني بحرب أوتيسيا الجنوبية –إحدى مقاطعات جورجيا- في آب (أغسطس) 2008. ثم بدأت أطماعه تكبر تدريجيا حين قررت موسكو التدخل العسكري المباشر في أوكرانيا في شباط (فبراير) 2012، التي انتهت بضم جزيرة القرم إلى روسيا الفيدرالية. نصر رفع من معنويات الروس، ومهد الطريق أمام طموحاتهم للعبور إلى مياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط، بدخولهم الحرب على الجبهة السورية في 30 أيلول (سبتمبر) من السنة الماضية.

ألم يشعل أصحاب العمائم هناك في طهران جبهات الصراع، باعتماد أسلوب الحرب بالوكالة التي تحولت تدريجيا إلى التدخل المباشر، في عديد من الأقطار العربية (لبنان، اليمن، سوريا، العراق...)، حيث ارتكب فيها أنصارهم حملات تطهير طائفية وعرقية، تذكرنا بالتاريخ القرسطوي الأوروبي الأسود، دون أن يحرك أحد ساكنا تجاه هذه الجرائم والإبادة التي تشارك فيها فرق من الحرس الثوري، مخلفة ممارسات تتجاوز الأشكال التقليدية للإرهاب المعروفة.

طبعا هذا ليس من باب تزكية ومباركة ما يقدم عليه الأفراد من عمليات إرهابية، كيفما كانت وأيا كان المستهدفون من ورائها. فالأمر مدان وغير مقبول إطلاقا؛ مهما كانت الحجج المقدمة لتبرير ذلك. لكن وبالمثل وربما أكثر، ينبغي رفض وإدانة إرهاب الدول الذي يأتي على شعوب بأكملها، ويحصد الأرواح بالمئات والآلاف والملايين. لكن هذا لا يتم ما دامت تلك الأفعال صادرة عن القوى الكبرى في العالم.

يذكرني هذا بقصة بسيطة كنا نحكيها ونحن صغار تفيد بأن أحد القراصنة الصغار وقع في يد الإسكندر الأكبر وهو يمارس عمليات القرصنة بسفينة صغيرة. وسأله الإسكندر في حالة غضب وهيجان: «ألا تعلم أيها القرصان المجرم أنك تزعج البحر وتهدد أمنه»؟ فأجابه القرصان بقوله: «أنا مجرم ومهدد لأمن البحر بسفينتي الصغيرة وعملياتي المحدودة والمتواضعة، أما أنت أيها الإسكندر الأكبر، فلأنك تمارس القرصنة في عرض البحر بأسطولك الكبير وعملياتك الضخمة فقد أصبحت إمبراطورا».

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف