«سايكس بيكو»: نظرة للمستقبل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بهجت قرني
يجب ألا نقع في فخ النظرة الجزئية لهذا الإتقان ذي المائة عام، فهو ليس مجرد حدث بل نمط ممارسة، إنه بالفعل منظومة ساهمت في تشكيل الماضي والحاضر، وإذا لم ننتبه فقد تشكل المستقبل.
كعادتها منذ أحد عشر عاماً، قامت جريدة «الاتحاد» بدعوة واستضافة كتاب صفحات الرأي فيها (وجهات نظر)، وكما لا حظنا سابقاً، كانت الجريدة رائدة في هذا الاتجاه، ولم يمنعها أي ظرف من الاستمرار في هذا التقليد الرائع الذي يسمح لكتابها باللقاء مرة كل عام لتجديد الحوار ودفع «وجهات نظر»، ومناقشة موضوعات الساعة من «آفاق الدولة الوطنية» إلى «معضلة الإرهاب».
كان موضوع هذه الدورة السنوية الحادية عشرة هو اتفاق سايكس بيكو الذي تم عقده في 16 مايو 1916، أي قبل مائة عام وخمسة أشهر من الآن. كان «مارك سايكس» نائباً برلمانياً لحزب المحافظين البريطاني ومساعداً لوزير الدولة لشؤون الحرب، اللورد كيتشنر. أما «جورج بيكو» فقد كان يحلم بأن يكون محامياً بارزاً في بلده فرنسا، لكن انتهى به الأمر إلى الالتحاق في سنة 1898 بوزارة الخارجية الفرنسية كدبلوماسي مبتدئ.
وبسبب المكانة المتواضعة نسبياً لذينك الدبلوماسيين، البريطاني والفرنسي، قد يبدو اتفاق سايكس بيكو عديم الأهمية أو كأسطورة ومجرد ورقة بالنسبة لمنطقتنا العربية.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن السياق العام لهذا الاتفاق البريطاني الفرنسي لم يكن بالدرجة الأولى المنطقة العربية، بل مسار الحرب العالمية الأولى على المسرح الأوروبي: فقد كانت جيوش ألمانيا دائمة التقدم، لذلك وجب وقفها عن طريق مهاجمة حليفتها الإمبراطورية العثمانية وإنشاء جبهة عسكرية أخرى خارج أوروبا لكي تشتت اهتمام العسكرية الألمانية وتوقف تقدمها على المسرح الأوروبي. وحتى العالم العربي، ومن ورائه الإمبراطورية العثمانية، لم يكونا إلا مجرد وسيلة لتغيير مقدرات الأمور على الساحة الأوروبية. هل يُغير هذا إذن من أهمية اتفاق سايكس بيكو بالنسبة للمنطقة العربية؟
ينبغي أن نتجنب النظرة الجزئية لهذا الاتفاق، أي أن ننظر إليه كحدث منفرد، وإنما المطلوب هو أن ننظر إليه بطريقة كلية، أي كجزء من سياق عام أو منظومة في التفكير والعمل الأوروبي تجاه هذه المنطقة في تلك الفترة، ويستمر كنمط في التفكير الخارجي حيال منطقتنا حتى الوقت الحاضر. هذا النمط من التفكير يقوم على السرية والخداع واتخاذ قرارات مصيرية بشأن المنطقة، لكن وراء الأبواب المغلقة. هذا هو الأساس من الناحية المنهجية والسياسية التي يجب الالتزام به في تحليل سايكس بيكو.
لم يكد يمر عام على ذلك الاتفاق حتى فوجئت المنطقة بحدث آخر لا يقل خطورة، ألا وهو وعد بلفور في سنة 1917. وكما نعلم فإن بلفور كان وزير الخارجية البريطاني، وقد تعهد في حينه بمنح أرض فلسطين لليهود لإنشاء دولتهم (إسرائيل)، وهو أكبر انتهاك دولي، لأن بريطانيا كانت تتولى «حق» الانتداب في فلسطين وتهيئتها للاستقلال، أي أنه كان لها أن تتنازل مثلاً عن مقاطعة ويلز أو أي جزء من اسكتلندا، لكنها لا تملك حق التصرف في فلسطين كي تمنحها لمن تشاء، وكما قالها عبدالناصر بحق: «لقد أعطى من لا يملك لمن لا يستحق».
المثل المهم الآخر الذي يؤكد أن اتفاق سايكس بيكو هو منظومة في الفكر والممارسة وليس حدثاً جزئياً منفصلاً، هو ما حدث بعده بـ40 عاماً، ألا وهو العدوان الثلاثي القائم على مؤامرة وراء الأبواب المغلقة بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، عقب تأميم قناة السويس في سنة 1956. وقد كشف العديد من مؤرخي هذه الدول في أبحاثهم المتعددة، تفاصيل المفاوضات السرية لتنفيذ تلك المؤامرة التي هدفت قبل كل شيء إلى القضاء على عبدالناصر كرمز للتحرر العربي، وبالتالي ردع آخرين في المنطقة العربية، وأيضاً في العالم الثالث، عن التفكير في اتباع نموذجه في الاستقلال، ولكي تبقى المنطقة العربية مجرد وسيلة لتحقيق أهداف خارجية، كما يحدث الآن في سوريا.