ما بعد الانتخابات الأمريكية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
جميل مطر
أيام معدودة وتنتهي أهم وأقبح ما تابعت من حملات انتخاب رئيس للولايات المتحدة الأمريكية. تنتهي الحملة ولكن لا أحد في أمريكا قابلته أو اتصلت به استطاع أن يعد بأن القبح الذي لازم هذه الحملة منذ يومها الأول سوف ينتهي مع انتهائها. أمر مخيف أن لا أجد أمريكياً متزناً عبَّر عن تفاؤله بحال أمريكا في المستقبل أو حال العالم في ظل هكذا قيادة في أمريكا، حتى زبيغنيو بريجنسكي كتب في تغريدة يقول «العالم مقبل على مرحلة متزايدة من اللااستقرار حين تفرض الإحباطات الداخلية والخارجية نفسها على العلاقات الدولية». الخوف العام يتضاعف مع كل تدهور تتدنى إليه الأزمة السورية والأزمة العراقية والأزمة الليبية وأزمة الطائفية في الشرق الأوسط والأزمة في السباق المجنون نحو حرب باردة جديدة بين روسيا والولايات المتحدة وصعود ضغوط العسكريين على صانعي السياسة الخارجية ليس فقط في روسيا وأمريكا بل وفي فرنسا والصين والهند ودول كثيرة كرد فعل للشعبوية التي عادت تكتسح العديد من دول العالم، وكان ظهور دونالد ترامب وترشحه لرئاسة أمريكا نذيراً قوياً وصوتاً صارخاً وعلامة فارقة في مرحلة التحول هذه.
مثل مراقبين كثيرين احتفظت بأمل أن تأخذ الحملة الانتخابية الأمريكية قبل أن تصل إلى نهايتها منحى آخر معتدلاً يصحح الوضع الأمريكي والدولي. خاب الأمل. خاب لأن الحملة وصلت نهاياتها وما زالت التصرفات والمواقف والتهم المتبادلة عند مستواها الهابط كما اتضح من الحوار الأخير الذي عقد في مدينة لاس فيغاس بولاية نيفادا بين المرشحين.
لا أستهين بخطورة الاتهام الذي وجهه ترامب للنخبة السياسية التي تنوي، في نظره، تزييف نتائج الانتخابات وحرمانه من تحقيق الفوز الذي يستحقه. بهذا الاتهام في سياق شديد الانتباه والتوتر يكون ترامب قد غرس في العقل الأمريكي، وبخاصة عقل الشباب الشك، أو أنه أكد الشك، في أن النخبة السياسية الأمريكية فاسدة. صحيح أن ترامب لم يقصر منذ اعتلائه الساحة الانتخابية عن كشف فساد هذه النخبة الحاكمة، مؤكداً أنه جاء ضد إرادتها ولن يهدأ له بال قبل أن يثير ضدها الشعب الأمريكي. إلا أن توجيه اتهام محدد المعالم في ظرف تركيز وانتباه من جانب الناخبين ثم التحذير أو التهديد بأن مؤيديه لن يسكتوا عن أي تزوير، فهذا أمر مختلف تماماً وأخطر كثيراً. الاتهام في حد ذاته أحدث في النظام السياسي شرخاً أو على الأقل كشف عنه، ثم أضاف إليه ترامب التهديد بثورة «شعبية» إن تبين أن في النتائج تزويراً. .
الناس هناك غير غافلين عن حقيقة أن المجتمع الأمريكي، وهو النموذج القائد في سباق التقدم والحضارة المعاصرة، لم يحل بعد مشكلات الاندماج فيه، وأن بعض هذه المشكلات مرشح للانفجار في أي وقت أو تحت ضغوط أزمة أو أخرى. المؤكد أمامنا ونحن نشاهد الفصل الأخير من مسلسل الحملة الانتخابية أن القضية النسوية عادت تتصدر الواجهة.
في الوقت نفسه، نحن أمام مشهد تظهر فيه الأغلبية العظمى من نساء أمريكا محبطات لوجود دونالد ترامب وتصرفاته الصبيانية، أو كما وصفتها زوجته بسلوك مراهق. تاريخ ترامب لا يشرف نساء أمريكا أو أي نساء حتى اللائي يعرضهن للبيع أو العمل في ملاهيه وفنادقه، وبعضهن خرجن عن طاعته علناً في الحملة كاشفات عن مدى تحقيره للنساء عموماً والقريبات منه خصوصاً.
العنصرية، كالطائفية والتعصب الديني والتمييز على أساس العرق والطبقة، مشاعر قد تكون مستهجنة لدى قطاعات في النخب الحاكمة بل ولدى الشعوب في مراحل الاستقرار ورغد العيش، ولكنها دائماً وأبداً وطالما لم تقتلع من جذورها جاهزة للاشتعال في لحظة غضب أو قمع أو توترات اجتماعية عميقة. ليس خافياً على أحد من دارسي أمريكا أنها تمر في لحظة مماثلة. كان الأمل أن تكون ولايتا باراك أوباما فترة كافية لتضييق الفجوة بين البيض والسود والسماح لعدد أكبر من السود بدخول مجتمع الرخاء الأوسع يشاركون فيه البيض. لم يحقق أوباما الأمل، أو بعبارة أدق، كانت ظروف الأزمة الاقتصادية التي رافقت رئاسته منذ يومها الأول وخضوع أوباما لسلطة رجال المال من العوائق الرئيسية التي حالت دون تحقيق الأمل. كانت فرصة رائعة ومقامرة شجاعة من جانب النخبة الحاكمة اختيار رجل أسود للرئاسة بأمل أن يهدئ ويرشد رغبات السود في الصعود السريع، تماماً كما كان الأمل في ترشيح سيدة لمنصب الرئيس أن تهدئ وترشد الضغوط النسوية المتصاعدة. أحبط الأمل، أو يكاد يحبطه.
أقرأ عن أن ترامب صار مادة للتدريس في عدد من الجامعات الأمريكية. يدرسون موقع ترامب في التاريخ الأمريكي بحثاً عن سوابق، ويدرسون الترامبوية كمذهب أو ظاهرة اجتماعية وسياسية. ليس هذا ما يقلق بعض الأصدقاء في أمريكا، ما يقلقهم حقيقة هو أن كثيراً مما يصرخ به ويصرح دونالد ترامب يجد صدى في أوساط الطلاب. أنا شخصياً لا أظن أن مواقف ترامب من المهاجرين من المكسيك أو من المسلمين عموماً أو من النساء أو من روسيا ونظام حكم بوتين أو الموقف من مواطنيه السود سوف تمر على الجامعات الأمريكية وعلى شباب أمريكا عامة مرور الكرام.
كثيرة هي الآثار الناجمة عن هذه الحملة الانتخابية، لن يغير منها أو يقلل من أهميتها نتيجتها. وقع ما وقع، وبعض ما وقع باق ومؤثر. نأخذ مثلاً أخيراً قبل أن أنهي مقالي. جلسنا مشدوهين أمام الشاشة نستمع إلى دونالد يتكلم بلسانه أحياناً وبأصابعه أحياناً أخرى. جلسنا نستمع باشمئزاز وكثيرا ما تركناه يتكلم وقد كتمنا الصوت. وذلك عندما وجد بيننا شباب من الجنسين. لاحظت بمرور الوقت أن تأففي يقل واشمئزازي ينحسر ولم يعد الاستماع إليه شراً. توقفت عندما تذكرت القاعدة التي تقول إن اللغة الرديئة تصنع سياسة رديئة وبالعكس السياسة الرديئة تصنع لغة رديئة حيث تدنت خلال الحملة اللغة الإعلامية والسياسية وكذلك الممارسات السياسية إلى درجة مؤسفة.