جريدة الجرائد

النخبة المسيحية اللبنانية في دورها الجديد

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

  جهاد الزين 

لا أعرف تفاصيل التفاهمات غير المعلنة بين الجنرال ميشال عون والسيد سعد الحريري و"حزب الله". الذي أعرفه أنها موجودة وأنها لا يمكن إلا أن تكون موجودة ومكتوبة وقد تكون مسهبة.

هؤلاء يمثلون قوى إقليمية ومتصلون بقوى دولية ولا سيما إيران والسعودية. ويمثلون أنفسهم كقوى محلية، اثنان منهم تأسسا بقرار خارجي سعودي وإيراني ولكنهما ولأسباب مختلفة تحولا إلى قوتين راسختين في بيئتيهما الشعبية والطائفية. استثماران كاملان لا سابق لهما من حيث ولادة كلٍّ منهما في بلاط خارجي ثم نجاحهما في التجذر الشعبي إلى حد، كما في حالة "حزب الله"، غيَّر في سوسيولوجيا الطائفة الشيعية. ورغم بقاء التنوع العميق في هذه الطائفة على مستوى النخب غير أن جسم الطائفة وتقاليدها تغيرت بدءاً أو مروراً بجارتنا المرحومة الحاجّة حمدة في قريتي جبشيت. الحريرية، ولو بدأت التراجع الجاد عن سطوتها السابقة، تلقّفت التغيير الاجتماعي السني، وهو جزء من التبدل العربي والمسلم، ولكنها غيّرت النخبة السنية اللبنانية مروراً بجاري في القنطاري.
ميشال عون كزعيم هو نتاج لبناني كامل. ولكن كرئيس هو حتماً نتاج قبول خارجي بزعيم لبناني. عدا ذلك تجليط.
لكنْ وبعيداً من "بعض" الكلام الفارغ أو المجامل أو الببغائي، فإن انتخاب رئيس جديد للجمهورية هو لحظة مسيحية كبيرة، حتى لو كانت أو هي الآن لحظة لبنانية ومشرقية هامة. وفي زمن الانقراض المسيحي في المنطقة صار للدور المسيحي في لبنان ليس فقط أهمية مضاعفة بل أهميات مضاعفة. صار معنى الضعف مضاعفاً ومعنى الاستمرار مضاعفاً.
أي رئيس جديد للجمهورية، وخصوصا حين يكون آتياً من مدرسة المسيحية المقاتلة عسكرياً التي انتهت ميدانياً مع نهاية الحرب الأهلية مثل ميشال عون، لا ينبغي أن يقع في المفهوم السياسوي الصرف لفكرة القوة والضعف الطائفية. هناك مفهوم آخر بل منظور آخر عميق وحقيقي للقوة المسيحية اللبنانية:
الطائفة الأقوى في لبنان تربوياً وثقافياً وتعليمياً واقتصادياً وفنياً وسياحياً واجتماعياً (أي ليبرالياً) هي الطائفة المسيحية التي أصبحت عملياً طائفة مركّبة من طوائف مسيحية متعددة.
رئيس الجمهورية الآتي هو من هذه الطائفة "الهولدينغ" التي بسببها تأسست قبل ولادة الدولة اللبنانية الجامعتان اللتان لا تزالان الجامعتين الأهم في العالم العربي (باستثناء اسرائيل)، وهما اللتان لايحتاج القارئ حتى غير النبيه لتسميتهما مع أنني سأسمّيهما أي الجامعتان الأميركية واليسوعية. وبين الجامعات الجديدة النوعية فلا شك أن في عداد عددها القليل جامعتين أو ثلاثاً من البيئة المسيحية.
أقرأ حالياً كتاباً بالفرنسية صادراً عام 2014 للباحث التونسي قيس الإزرللي تحت عنوان: الديبلوماسية الغربية والانشقاق العربي - فرنسا الكولونيالية والحركة العروبية في سوريا العثمانية (1912 - 1914). لست الآن في وارد مراجعته ككتاب. أعتقد أن الموضوع الذي يعالجه ليس شائعاً لأن الحركة العروبية يُنظر إليها يومها على أنها قريبة من بريطانيا ومعادية لفرنسا التي كانت معنية فقط بالمسيحيين في "اللوفان".
ما لفتني وما سأنقله من الكتاب هو التالي:
حسب تقرير فرنسي حكومي عام 1913 عن عدد المؤسسات التعليمية الفرنسية أو المدعومة من فرنسا، كان هناك 36 ألف تلميذ وطالب. يمثل هذا الرقم نصف عدد التلامذة في المؤسسات الفرنسية أو المدعومة من فرنسا في كل الامبراطورية العثمانية. والأهم من ذلك أن ثلثي هؤلاء التلامذة يتمركز في منطقة بيروت وجبل لبنان بما فيهم بل في مقدمتهم طلاب الجامعة اليسوعية.
لا أعرف أو لا أتذكر مشروعاً "انفصالياً" سياسياً أسفر عن قيام دولة هي دولة لبنان الكبير استند أساساً على قاعدة تعليمية بهذا الشكل؟
هذا دون أن ننسى الجامعة والمدارس الأميركية والروسية وفي بيروت، ولو بنسبة أقل طبعاً، مدارس المقاصد فيما كانت هذه "العدوى" الفاضلة بدأت تتسرب إلى وعي النخبة الجديدة المسفرة عن طموحاتها في جبل عامل بعد الانقلاب الدستوري في اسطنبول عام 1908 مع قيام بعض رجال الدين بتأسيس مدرسة أولى في النبطية! ولن أتطرق هنا إلى عدد المستشفيات أيضاً المختلف كالمدارس عن الداخل السوري وخصوصاً دمشق وحلب في ما يستنتج الكاتب أن الاهتمام الخاص الفرنسي كان بمناطق الساحل لا الداخل السوري كما عن كل المناطق العثمانية الأخرى.
بعد أكثر من مائة عام على هذه الأرقام، وبعد سنوات طويلة لاحقة من الصراع المضني على هوية لبنان "القومية" وأحيانا الدينية، يبدو أن شيئاً ما عميقاً مات في هذا النوع من التجاذب بين الهويات - الأولويات الوهمية أو الحقيقية. لم تمت الهويات بل ماتت أهمية الصراع عليها حيال تحديات جديدة في غاية الخطورة في المنطقة ولبنان ضمن العصر العالمي الجديد.
الرئيس الجديد ينبغي أن يبني استراتيجيته على ما أسمّيه المعنى الجديد للوطنية اللبنانية الذي يلعب فيه الوجود المسيحي دوراً قيادياً طبيعياً لا يحتاج إلى تباكٍ.
لا شك أن المعنى المسيحي لدور الرئيس الجديد أساسي. فهو رئيس لبنان ما بعد الانقراض المسيحي في المنطقة.
يا للمسؤولية الضخمة في هذا الواقع، مسيحية وغير مسيحية.
نعرف حجم الصعوبات التي تواجه المهمة المسيحية كمهمة وطنية خصوصا أمام استمرار الكثير من النخب السياسية المسلمة في اتباع تقليد التنافس الضيق جداً مع المسيحيين، وهي نخبة سنية وشيعية ودرزية لم تعِ بعد أو لم تخرج من التقاليد القديمة للتنافس الطائفي، ولكن بالمقابل يجب أن تنتبه مدرسة المسيحية المقاتِلة القديمة بفرعيها الدولتي والميليشياوي إلى أن خطاباً جديداً يجب أن يتأسس هذه المرة: خطاب جديد ليس فقط للوفاق بل أيضاً خطاب جديد للتنافس مع الطائفيات الأخرى.
يأتي الرئيس الجديد للبنان في منطقة جديدة مدمَّرة ومستمرة في الدمار. ويواجه لبنان خطرين متداخلين:
الخطر على مسيحييه والخطر عليه كبُنية.
لا أتفاءل ولن أتفاءل في شرق أوسط عربي جزءٌ كبير منه منهار، وقد أصبح هناك جيلان من كفاءاته العليا من كل الأديان في الخارج بلا علاقة منتِجة مع الأصول... ولكن الرئيس الجديد يستطيع ربما أن يؤسس لا جمهورية جديدة، تدهورت دولتها في التفاهة، وإنما لخطاب جديد، لمعنى جديد للوطنية اللبنانية.
إنه في العمق، وأستميح أي رئيس جديد العذر، دور جديد للنخبة المسيحية وليس للرئيس سوى كممثّل له.
من هنا أرجو أن يكون هذا السؤال بين الأسئلة التي يطرحها الرئيس الجديد على نفسه:
هل الطبقة السياسية المسيحية الحالية عبءٌ على الدور المسيحي النوعي في المعنى الموعود للوطنية اللبنانية أم داعم له؟
لا أستسيغ مصطلح "إعادة بناء الدولة" لأن هيكلية الدولة لا يمكن إعادة بنائها في الجيل الحالي وصارت مرتبطة بتخلفها مصالحُ فئة بل "نخبة" لبنانية من الطبقة الوسطى من كل الطوائف تديرها طائفيات عاتية.
ما يمكن أن يكون واقعياً هو البدء بإعادة بناء الخطاب الوطني. معنى جديد للوطنية اللبنانية وسط منطقة منشغلة بنفسها طويلاً وترتسم عبر هذا الانشغال صورة الشرق الأوسط الجديد ذي المساحة العربية المتفككة.
هل يعني هذا أن البرنامج الفعلي اللبناني هو البرنامج المستحيل ... غير بقاء الحد الأدنى؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف