الصراع الحضاري والاضطراب العالمي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
السيد يسين
قررنا في نهاية مقالنا الماضي «بداية عصر الاضطراب العالمي» (منشور في 27 أكتوبر 2016) أن لوحة عصر الاضطراب العالمي بالغة التعقيد، وينبغي للحديث عنها التعمق في فهم أبعاد ثلاثة أبرزها الصراع الحضاري، وانهيار الدول، وتفكك المجتمعات، والواقع أن الصراع الحضاري بين العالم الغربي والعالم العربي والإسلامي بدأ منذ الاحتكاك المباشر بين قوى الاستعمار الإمبريالية التي غزت عديداً من البلاد العربية، والقوى الوطنية والقيادات الإسلامية التي وقفت مواقف مختلفة من الحضارة الغربية التي حاولت تأسيس شرعيتها العالمية في ضوء مفهوم «المركزية الأوروبية»، وجوهر هذه المركزية الثقافية الزعم بأن القيم الغربية هي أسمى من كل القيم السائدة في الحضارات الأخرى، ومن ثم فهي لا غيرها التي من حقها أن تحدد تقدم المجتمعات أو تخلفها. وفي ضوء هذا التحيز الثقافي حكمت القوى الإمبريالية الغربية على المجتمعات العربية والإسلامية بأنها مجتمعات متخلفة، وأنها من خلال استعمارها تحاول نقلها من حالة التخلف إلى حالة التقدم على النسق الغربي، والواقع أنه بعد حملة «نابليون» على مصر ثارت بلبلة فكرية كبرى لدى جيل المثقفين المنورين العرب في عصر النهضة العربية الأولى، وذلك لأن السؤال الجوهري الذي طرحوه كان لماذا التخلف العربي الإسلامي وما أسباب التقدم الغربي؟
ويرصد المؤرخ المغربي المعروف «عبد الله العروي» في كتابه الشهير «الأيديولوجية العربية المعاصرة» ثلاثة نماذج أساسية للاستجابات المختلفة للمفكرين العرب في مواجهة التقدم الغربي، وقد ميز بين ثلاث استجابات أطلق على الأولى منها «وعي الشيخ» ويقصد به الشيخ «محمد عبده»، والذي كان يرى أن الإسلام لو قرأ قراءة عصرية فإنه يمكن أن يكون نموذجاً حضارياً يمكن احتذاؤه، وبالتالي ليست هناك ضرورة لاقتباس النموذج الغربي، وعلى عكس هذا الموقف نجد «وعي الليبرالي»، ويقصد به «أحمد لطفي السيد» أحد رواد الفكر الليبرالي في مصر، والذي كان يرى القطع نهائياً مع التراث، وتطبيق النموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والثقافة، ويبقى وعي «داعية التقنية»، ويقصد به المفكر الماركسي المصري «سلامة موسى» الذي كان يدعو إلى القطيعة التامة مع فكر المجتمعات الزراعية المتخلف السائد، وتبني التصنيع والتكنولوجيا كأساس للتقدم.
كانت هذه هي الجولة الأولى من الصراع الحضاري بين العرب والغرب، غير أن الجولة الثانية التي أشعلت نيران الصراع الحضاري كانت هي الرفض المطلق للحضارة الغربية، وهو الموقف الذي تبنته الجماعات الإسلامية المتطرفة، ولعل زعيم هذا التيار «رشيد رضا» صاحب مجلة «المنار»، والذي كان مفكراً تقليدياً رافضاً تماماً للحضارة الغربية، والذي أثر بفكره على «حسن البنا» مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» عام 1928 هو الذي أثر بفكره المتطرف على جماعات إسلامية متعددة.
ومن هنا يمكن القول إن هذا الموقف الرافض للحضارة الغربية، والذي فشل فشلاً ذريعاً في التمييز بين جوانبها السلبية وأبعادها الإيجابية كان هو بداية الصراع الحضاري بين العالم العربي والإسلامي والغرب عموماً، ولعل الذي دعم موقف هذه التيارات الإسلامية الرجعية أن الغرب الذي كان يزعم -في ظل دعاوى المركزية الغربية- دفاعه عن حقوق الإنسان هو نفسه الذي مارس استعمار واحتلال عديد من البلاد العربية والإسلامية.
ويمكن القول إن نيران الصراع الحضاري بين العالم العربي والغرب هدأت في الخمسينيات التي شهدت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 استقلال كل الدول العربية، سواء تم ذلك من خلال المفاوضات -كما حدث في مصر عام 1954 حين نجح «جمال عبد الناصر» في توقيع اتفاقية الجلاء مع إنجلترا على الرغم من بعض شروطها المجحفة- كما أن نظم «الوصاية» و«الانتداب» على سوريا ولبنان ألغيت، وغادرت القوات الإنجليزية المحتلة العراق. أما في المغرب العربي فقد استطاع «بورقيبة» أن يستخلص من فرنسا استقلال بلاده، وتمكنت ثورة التحرير الجزائرية أن تهزم قوات الاستعمار الاستيطاني الفرنسية، وتحصل الجزائر على استقلالها الكامل بعد أن ضحت بمليون شهيد، كما أن المغرب حصل على استقلاله بعد معركة سياسية بطولية.
وهكذا نشأت الدول الوطنية العربية المستقلة، والتي تبنت شعار التنمية الذي ساد العالم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ولذلك حاول القادة العرب كل بطريقته تحديث بلاده سواء على المستوى الإداري أو الاقتصادي، وإن غلبت الشمولية والسلطوية على طابع النظم السياسية، ومرت الديموقراطية بأزمة عميقة.
غير أن الدول الوطنية العربية وإن نجحت بدرجة، أو أخرى في تحديث المجتمعات العربية فإنها فشلت بامتياز في تحقيق الحداثة على النسق الغربي. والحداثة الغربية تقوم على عدة أسس هي الفردية بمعنى إعطاء الفرد كامل حقوقه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والعقلانية، والاعتماد على العلم والتكنولوجيا، غير أن أخطر جوانب الحداثة الفكرية الغربية هي مبدأ «أن العقل هو محك الحكم على الأشياء وليس النص الديني» إعمالاً لمذهب العلمانية الذي يفصل تماماً بين الدين والدولة، ولذلك ظل النص الديني مهيمناً بدرجات متفاوتة في المجتمعات العربية المعاصرة.