جنوب سوريا.. هدوء على وقع التوازنات الدولية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
نذير رضا
لم يبدّل القصف المتقطع لقوات النظام السوري على مناطق جنوب سوريا، في مشهد «الهدوء المؤقت» الذي تشهده الجبهة الجنوبية منذ أكثر من سنة، ذلك أن «توازن القوى» بين الطرفين، يكاد يكون معدومًا في ظل «جهود غربية مكبّلة» بفعل الانتظار لما ستؤول إليه التغييرات في السياسة الخارجية الأميركية إثر فوز الرئيس دونالد ترامب. بيد أن الرهان على تغييرات في المواقف الغربية، لا يكبّل وحده غرفة «الموك» التي عُرفت في وقت سابق بكونها أبرز الداعمين للفصائل العسكرية السورية المعارضة في الجنوب. فالتفاهم الذي جمع روسيا مع الأردن من جهة، وروسيا وإسرائيل من جهة أخرى، للإبقاء على الجبهة «باردة» يُسهِم في ضبط النظام السوري، عبر روسيا، عن إطلاق عمليات عسكرية واسعة في المنطقة الجنوبية، في حين يسهم في ضبط قوات المعارضة عن تنفيذ عمليات واسعة أيضًا ضد قوات النظام، بحكم عدم تلقيها الدعم العسكري من غرفة «الموك» (مركز العمليات العسكرية)، وتتولى روسيا في الحالتين ضبط الجبهة.
لم تشهد خريطة النفوذ في الجبهة الجنوبية لسوريا، تبدلاً استراتيجيًا منذ نحو عشرة أشهر، حيث ما زال نظام بشار الأسد يحافظ على مواقع سيطرته في مدينة درعا، عاصمة محافظة درعا وكبرى مدن الجنوب السوري بعد العاصمة دمشق، وعلى خط إمدادها الرئيسي من دمشق، وذلك بعدما فقد السيطرة على أكثر من 70 في المائة من أريافها خلال معارك واسعة شهدتها المنطقة على دفعات بدءًا من 2011.
ومنذ اليوم الأول لإطلاق المعارضة عملياتها في درعا، وسّع النظام آلة القصف، بالنظر إلى أن درعا، التي تبعد نحو 100 كيلومتر عن دمشق، تمثل أبلغ تهديد لنفوذ النظام في العاصمة، في وقت مثلت فيه أكبر تهديد شعبي له، بالنظر إلى أن المدينة تعتبر أول من انتفض ضد النظام في منتصف مارس (آذار) 2011. ولقد شكلت درعا وريف محافظتها، التي تمتد لتغطي معظم سهل حوران، مهد الانتفاضة الشعبية المطالبة بإصلاحات، خصوصا بعدما أقدمت السلطات على اعتقال وتعذيب فتيان إثر اشتباهها بكتابتهم شعارات مناهضة للنظام على الجدران.
وشيئًا فشيئًا، استطاعت المعارضة السيطرة على أكثر من 75 في المائة من مساحة المحافظة، ووصلت معاقلها بمناطق سيطرة المعارضة في القنيطرة، وبالغوطة الغربية لدمشق، بدعم من غرفة «الموك» (مركز العمليات العسكرية) Military Operations Center في الأردن، كما يقول معارضون سوريون، مما شكل تهديدًا كبيرًا للنظام الذي شن معركة في أوائل عام 2015 على ما عُرف باسم «مثلث الموت» الواقع بين مناطق غرب محافظة ريف دمشق الغربي وشمال درعا وشرق محافظة القنيطرة، لمنع اتصال قوات المعارضة في تلك المناطق ببعضها.
وفي ربيع 2015، تواصلت محاولات توسع المعارضة في الريف الغربي لمحافظة القنيطرة الممتد على المنحدرات الشرقية لجبل الشيخ والمتاخم للجولان السوري المحتل. وفي الوقت نفسه، نفّذت قوات المعارضة عمليات عسكرية سيطرت فيها على المناطق الحدودية مع الأردن قرب معبر الرمثا، والريف الشرقي لمحافظة درعا وصولاً إلى الحدود الإدارية مع محافظة السويداء. ومن ثم، اتجهت جنوبًا إلى مدينة درعا حيث تمكنت قوات النظام يومذاك من صدّ هجمات عسكرية واسعة حاولت فيها قوات المعارضة السيطرة على المدينة.
والواقع أن الهدوء بدأ يسود الجبهة الجنوبية في محافظتي درعا والقنيطرة، بعد أقل من شهر على تدخل روسيا العسكري في سوريا في 30 سبتمبر (أيلول) 2015، حيث تراجعت حدة العمليات العسكرية للمعارضة إلى حد كبير، بعد أربعة أشهر على توسع كبير حققته في المنطقة الحدودية مع الأردن، قبل أن يدخل العامل الروسي الذي أتاح لقوات النظام «فرصة لالتقاط الأنفاس» في المنطقة، كما يقول مصدر سوري معارض في الجنوب لـ«الشرق الأوسط». يشير المصدر إلى أن الهدوء الذي ساد الجبهات، دفع قوات النظام إلى «القفز فوق الاعتبارات الروسية» بعد ثلاثة أشهر من الهدوء، ثم الانطلاق في أوائل العام الحالي في عملية عسكرية خاطفة سمحت للنظام استعادة السيطرة على مدينة الشيخ مسكين وميطها، وبالتالي «توسيع رقعة الحماية لخط إمداد النظام من العاصمة إلى مدينة درعا».
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أي تغيير في خريطة النفوذ في الجنوب، يعني طرد النظام من مناطق قليلة يسيطر عليها، إذ وصلت خريطة النفوذ إلى الذروة حيث لا يمتلك النظام، استراتيجيًا، إلا خطوط إمداده إلى مدينة درعا.
ولا ينفي قياديون معارضون أن معارك الجبهة الجنوبية الآن «لا تحظى بتوافق دولي»، وأن قوات المعارضة «لا تمتلك إمكانات عسكرية بغياب الدعم الدولي». وهم يؤكدون أنه «في حال تم تقديم الدعم، فإن ذلك سيرجِّح كفة المعارضة في المعركة». ووفق تعبير المصدر المعارض فإن التوازنات الدولية «تحول دون إطلاق معركة في الوقت الحاضر».
الأردن وفصائل الجبهة
على مدى خمس سنوات، بنى الأردن علاقات جيدة مع فصائل الجبهة الجنوبية. وتعد هذه الفصائل المعتدلة التي تنتمي إلى «الجيش السوري الحر» مقرّبة من عمّان، وكانت قد تلقت دعمًا من الأردن عبر غرفة «الموك» لمواجهة تنظيم «شهداء اليرموك» الموالي لتنظيم داعش المتطرف في ريف درعا الغربي وريف القنيطرة.
غير أن التفاهمات الروسية - الأردنية، كما تقول مصادر متابعة، قضت في وقت سابق بتحييد الجبهة الجنوبية عن القصف الجوي الروسي مقابل التزام فصائل المعارضة في جنوب سوريا بوقف إطلاق النار ووقف العمليات العسكرية ضد النظام، بضمانة غرفة «الموك». وهذا، حسب المصادر، ما أهّل درعا لتكون أكثر المحافظات التزاما بالهدنة الروسية إذ حافظت على تماسكها رغم الخروق التي تعرضت لها.
ثبات «الموك» MOC
وعطفًا على ما سبق، رغم خروق النظام، بما في ذلك القصف الجوي والمدفعي والصاروخي الذي يستهدف مدينة درعا وريفها، لم يطرأ أي تغيير على خطط غرفة «الموك»، منذ التدخل الروسي في سوريا، والتفاهم مع الأردن على تبريد الجبهة الجنوبية. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، يقول الباحث السياسي الأردني والخبير الاستراتيجي محمد أبو رمان: «أعتقد أن العمل العسكري في الجبهة الجنوبية، هو الآن قيد الانتظار، فالنظام والروس يستغلون فترة عدم وضوح الموقف الأميركي لتحقيق انتصارات على الأرض»، رغم أن المعركة «شبه معطلة».
ويضيف أبو رمان أن «برنامج التدريب مرتبط حصريًا بقتال داعش، وليس بقتال الروس». ويرى أن هناك «تحولات كبيرة، وثمة ترقب فرنسي وبريطاني لمعرفة ما سيحدث بعد انتخاب دونالد ترامب للرئاسة الأميركية»، لافتًا إلى أن تصريحاتهم «لا توحي بخطة لإبعاد الأسد بقدر ما تؤكد أن الجهود تصب لمحاربة (داعش)».
من ناحية أخرى، رغم الهدوء على جبهة الجنوب من قبل المعارضة، ما زالت قوات النظام وحلفائها تخترق المشهد بشكل متكرر بعمليات «انتقائية» و«موضعية»، تحاول فيها قضم مساحات جغرافية لتوسيع «رقعة الأمان» حول الطريق الدولي الذي يربط مدينة درعا بالعاصمة السورية، ويعدّ خط الإمداد الوحيد لقوات النظام المدينة. ولكن، مع ذلك «يستبعد الأردنيون أن يكون الجنوب هو الهدف الثاني للروس بعد حلب»، بحسب ما يقول أبو رمان، الذي يؤكد أن القيادة في العاصمة الأردنية «تعتقد أن موسكو سوف تتجه إلى التهدئة السلمية»، وعليه «لا يبدو في عمّان قلق شديد حول ملف درعا».
في المقابل، بعكس الموقف الأردني، يخالف أبو رمان بتقديره هذه التوقعات، إذ يقول: «أختلف مع الحسابات في هذا التقدير. برأيي، الروس أعلنوا أن الموضوع السلمي صعب تحقيقه، وإذا كان هذا الأمر صحيحًا، فإنه لا يقابله لدى الغرب خطة (ب)، وهو ما يعني أنه في حال شن النظام هجومًا على الجنوب، ما البدائل والخيارات؟». وهنا يضيف: «بالتأكيد هناك اختلال في موازين القوى، إذ إن الروس يحققون تقدمًا، بينما الأميركيون في حالة من التراجع وعدم الوضوح إزاء الأجندة السورية»، لافتًا إلى أن هذا الموقف «يربك الأردن، الذي لا يستطيع التحرك بمعزل عن القرارات الغربية».
رغم ما تقدّم، فإن حسابات الأردن مرتبطة بشكل كامل بالتفاهم مع روسيا حول التهدئة، بينما يدخل عامل آخر حائلاً دون تسخين الجبهة الجنوبية، وهو مرتبط بالاتفاق بين موسكو وتل أبيب، بالنظر إلى أن المنطقة متاخمة لهضبة الجولان السورية المحتلة، حيث تنشط الآلة العسكرية الإسرائيلية بالرد على أي استهداف يطال منطقة الجولان.
ووفق أبو رمان فإن القيادة الأردنية التي لا تتوقع تفجيرًا للجبهة الجنوبية من قبل النظام وروسيا، «تراهن على التفاهمات مع روسيا، وعلى العامل الإسرائيلي، بالنظر إلى أن تل أبيب لا تسمح بوجود الحرس الثوري الإيراني وحزب الله في المناطق المتاخمة للجولان». ويزيد موضحًا أن الأردن «كان جزءًا من عملية التنسيق الثلاثي في جنوب سوريا، وكان له دور في هندسة تفاهم وقف إطلاق النار في الجنوب». غير الباحث والخبير الأردني، يخالف في الوقت نفسه، هذه التقديرات التي تتحدث عن أن روسيا تضمن عدم تفجير الجبهة، بحكم التفاهم مع إسرائيل أيضًا، ويشرح: «أنا أفرّق بين الأجندة الروسية من جهة، وأجندة إيران و(حزب الله) من جهة ثانية. صحيح أن روسيا غير مهتمة بالجنوب لتحقيق إنجازات عسكرية، لكن إيران والحزب مهتمان بمنطقة مثلث القنيطرة - ريف دمشق الغربي - ريف درعا الشمالي»، منبّهًا إلى أن وجود الإيرانيين والحزب «بازدياد في هذه المنطقة، بحسب ما يلاحظ الجيش السوري الحر، وهو ازدياد هادئ، وقائم وموجود رغم عدم وجود نشاط عسكري بارز لهؤلاء في المنطقة حاليًا».
الاعتبارات الإسرائيلية
العامل الإسرائيلي، يفرض أيضًا «وضعًا راهنًا» (ستاتوس كو) Status Quo في المنطقة الجنوبية لاعتبارين، يشرحهما ماريو أبو زيد، الباحث السياسي اللبناني والخبير في الأزمات الدولية، بالقول: «في الوقت الراهن، تحاول جميع الأطراف إلى حد ما الحفاظ على (الستاتوس كو) القائم في جنوب سوريا، باستثناء النظام الذي يحاول أن يثبت حضوره في المنطقة الجنوبية، خصوصًا على الجبهة المحاذية للجولان، وذلك لاستخدامه في مرحلة لاحقة بموضوع المفاوضات» السورية مع المجتمع الدولي. ويوضح أبو زيد في حديث مع «الشرق الأوسط» أنه «إذا ما تمكن النظام من انتزاع الجولان، أو على الأقل توسيع رقعة نفوذه حوله، فإنه سيفاوض إسرائيل على بقائه أو على إعادة الجولان إلى السيادة السورية».
ويشير أبو زيد إلى أن الاعتبار الثاني، يرجع إلى «الأمن القومي الإسرائيلي»، موضحًا أن «بعض المجموعات المدعومة إسرائيليًا تشكل حاجزًا أمام أي تقدم للنظام، أو أي أعمال عسكرية ما خلا بعض الخروق»، ويلفت إلى أن «الطيران الإسرائيلي يرد على أي تدخل أو تغيير في قواعد التوازن، أو إخلال به، حتى أنه كان يضرب منشقين عن المجموعات المدعومة من إسرائيل». ثم يضيف: «الهدف الأساسي لإسرائيل هو الحفاظ على الهدوء في الجبهة الحدودية مع الجولان، كون المنطقة تشكل خطرًا جديًا على الأمن الإسرائيلي»، مشددًا على أنه «حين تشتعل معارك بين النظام والفصائل المدعومة من تل أبيب، فإن التركيز يكون على قصف قوات النظام، وذلك لإسكات أي محاولات لتغيير قواعد التوازن في المنطقة».
معركة موضعية
من هذا المنطلق، لا يعدو الهجوم الذي شنته فصائل المعارضة السورية في جنوب سوريا على مواقع قوات النظام في المنطقة السهلية المحيطة بمدينة إبطع (إلى الشمال من مدينة درعا بريف درعا الأوسط)، أخيرًا، كونه «معركة موضعية» لا ترقى إلى مستوى «تفجير الجبهة الجنوبية» الهادئة نسبيًا منذ نحو تسعة أشهر، ويعزز فيها النظام متاريسه وقواعده العسكرية، ويستكمل «نشاطًا عسكريًا تكتيكيًا» لقضم مناطق صغيرة، واستهداف قادة المعارضة.
وكانت قوات المعارضة قد تعرّضت لانتكاسة عسكرية في الجنوب حين شنت هجومًا على مواقع النظام فيما يسمى محور «الكتيبة المهجورة»، شرقي إبطع، التي كان النظام قد تقدم إليها قبل نحو شهر. لكن النظام استطاع تطويق الهجوم بعد ساعتين على انطلاقته. ولم تكن تلك المعركة جزءًا من مخطط للسيطرة على مناطق أخرى في الجبهة الجنوبية، وتوسيع رقعة نفوذ المعارضة. ولقد وصف رامي عبد الرحمن، مدير «المرصد السوري لحقوق الإنسان»، الهجوم بأنه «موضعي وتكتيكي»، يهدف إلى «استعادة السيطرة على مناطق تقدم إليها النظام». وذكر أن الجبهة الهادئة منذ أشهر «يخرقها النظام يوميًا بقصف محدد، واغتيالات وخروق في محاولة لقضم مناطق المعارضة في المنطقة».
وللعلم، تعتبر «كتيبة الدفاع الجوي» المعروفة باسم «الكتيبة المهجورة»، خط الدفاع الأول عن مواقع قوات النظام في مدينة الشيخ مسكين (العاصمة العشائرية القديمة لسهل حوران)، وتقع الكتيبة على طريق درعا - دمشق القديم، وتتمتع بموقع استراتيجي مهم، وهي تمثل الآن نقطة انطلاق وتجمع النظام للهجوم على مدينتي داعل وإبطع الواقعتين جنوب الشيخ مسكين وشمال درعا. وفي حال سيطرت المعارضة على هذه الكتيبة، فإنها ستتمكن من دخول مدينة الشيخ مسكين الاستراتيجية وتصبح مواقع النظام في الشيخ مسكين و«اللواء 82» ومدينة إزرع تحت نيرانهم.
وفي مقابل محاولة المعارضة خرق الجبهة لتجنب «كسر في التوازن القائم» في الجنوب، لم تقدم قوات النظام على كسر حالة الهدوء، معتمدة بدلاً من ذلك على استراتيجية القضم البطيء، وذلك لتحاشي استفزاز الأردن. فالأردن، بحسب جهات مطلعة، لن يكون موقفه كما السابق، بل سيتحرك على خط دعم الفصائل السورية المعتدلة، على ضوء أن هناك 3 أخطار تترتب على انهيار الهدوء في جنوب سوريا، وتدفع الأردن إلى التصرف، هي: أولاً، وجود عشرات آلاف اللاجئين الذين سيتدفقون إلى الأردن. وثانيًا، نمو تنظيم داعش في صفوف الثوار نتيجة الإحباط إذا ما النظام حقق تقدمًا عليهم. وثالثًا، أن المواجهات ستنتقل من ريف درعا إلى المناطق الحدودية مع الأردن، وهو ما سيدفعه دفعًا لدعم الفصائل المعتدلة، بهدف حماية نفسه من هذه التهديدات الثلاثة.