وَهم الخلود
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بكر عويضة
مع أن تناول أحداث دولية ساخنة يظل أولى بالتعليق صحافيًا، وأكثر مهنية، خصوصًا إذ يشدّ الاهتمام ما يبدو واضحًا لجهة إحكام صقور اليمين السياسي قبضتهم على مقاليد الحكم في عواصم دولية عدة، بدءًا بأميركا الرئيس دونالد ترامب، وما بدأ يلوح في الأفق من تنصيب مسبق لساسة أميركيين ذوي توجهات يمينية بعضها متطرف، وصولاً إلى احتمال أن يصحو العالم قريبًا على فرنسا «الرئيس مارين لوبان»، مع ذلك وجدتني مشدودًا لنبأ انتصار محكمة بريطانية نهار الخميس الماضي، لقرار فتاة ذات أربعة عشر عامًا وتحقيق رغبتها في تجميد جسدها بعد موتها، على أمل أن يتوصل العلم، ولو بعد قرنين، إلى ما يبعث فيها الحياة من جديد، لكَون عظامها المُجمدة لم تتحلل إلى رميم، فيعالجها من خبيث سرطان أودى بحياتها وهي بعد في ريعان الصبا.
إنما، هبْ أن ذلك الأمر تحقق، بمشيئة مَنْ خلق فقدَّر وهدى، هل إذ ذاك سيرضى البشر ويقبلون حقيقة أن الموت لا بُدّ آت، ليس منه مفر، ولو عمّر الفرد ألف سنة أو يزيد؟ الأرجح أن الجواب هو: كلا. شرح ذلك واضح ومعروف لكل مُلّمٍ بجوانب من مسيرة الإنسان مذ بدء الخليقة، وخلاصته أن وهمَ خلود البشر رافق تطور حضارات عدة بمشارق المعمورة وفي المغارب، من أقاصي شمال الكوكب إلى صحاري الجنوب، أما الأقرب مثالاً للعرب فهو تعامل الحضارة الفرعونية مع عودة الموتى للحياة من منطلق تزويد الميت بما ظن علماء ذاك الزمن أنه ضرورات أساسية لبدء العيش الجديد. ولعلكم تذكرون عثور الألمانيين إيريكا وهلموت سيمون، سنة 1991، مصادفة على ما سُمي «رجل الجليد» بأعالي جبال الألب في منطقة على الحدود بين النمسا وإيطاليا.
دلالة ما سبق أن أمل الفتاة البريطانية بأن تقوم من الموت لتواصل الحياة مجددًا، هو ليس الأول ومن ثمّ لن يكون الأخير. ومع تسجيل الإعجاب بتفاؤل الصبيّة وشجاعة مطلبها إلى حدّ الذهاب به إلى منصة القضاء، ساورني أيضًا إحساس بالأسى إزاء تمكّن بضعة أناس من بيع هكذا وهمٍ لآخرين، لدرجة أنه دخل السوق ضمن «البزنس» المشروع، وراحت مواقع تجارة على الإنترنت تروّج له، ومن خلالها وصل لمراهقة في أواخر أيامها. أثارت القصة كثير ضجيج، واختلفت ردود الفعل بشأنها، خصوصًا لجهة ما تسببت به من آلام داخل أسرة الفتاة، هي لن تحس بها، وبالطبع لن تعرف عنها أي شيء، إذا تحقق لها ما أرادت، فبدا في الأمر جانب أناني لم يعجب بعض الناس. تناولت الكاتبة لبّي بيرفس (Libby Purves) الموضوع في مقالها بجريدة «ميل أون صاندي» الأحد الماضي بحس إنساني، خصوصًا أنها عاشت قسوة أن يواري الأب والأم ولدًا لهما الثرى. وكما حصل معي، عبرت السيدة لبّي عن إحساس الأسى ذاته، لكنها أيضًا أخذت في الاعتبار أن إقرار القاضي لقرار الفتاة سهل لها العبور من الحياة إلى الموت، ثم إن الكاتبة اللماحة ذكرت قراءها بكلمات مؤثرة للعبقري الراحل ستيف جوبز، جاء فيها ما يلي: «الموت هو أفضل اختراع للحياة، إنه أداة تغير الحياة، إذ يزيح القديم ليفسح الدرب للجديد». بالمناسبة، مكتشف عوالم «الآيباد» و«الآيفون»، لم يطلب تجميده في انتظار اكتشاف ما يعيده من الموت إلى عالم مختلف عنه تمامًا.
يُذكرني ذلك بما سمعت من صديقة ذات ثقافة راقية، إذ قالت قبل نحو عشر سنوات ما مضمونه: ماذا أفعل بحياة بلا أهل وأحباء، إذا صحوت بعدما مِت مائة سنة؟ كانت الصديقة تعلق على خبر حول بدء توسع «بزنس» تجميد الموتى. حقًا، من ذا الذي يريد أن ينهض فجأة من الرقاد فلا يجد حوله أي أحد يعرفه على وجه الأرض؟ حتى القليل من الناس، المعانون غربة الروح، المعتزلون البشر، طلبًا لسكينة النفس واطمئنان القلب، سرعان ما يكتشفون حاجتهم للنزول من قمة جبل العزلة والتأمل إلى سهول الحياة وجموح صخبها الجنوني، فتراهم يفتشون عن حبٍ محسوس بكل عصبٍ، وعن صداقة تلامس بصدق القول شِعاب النفس فتهدهد قلقها، وتبث فيها طمأنينة تواجه بها مواجع الزمن وجروحه.
يبقى أن حلم البريطانية القاصر، حتى لو هو مجرد وهم، يظل أكثر نقاءً وبراءة من أحلام زعماء وطغاة يطلبون الخلود وهم أحياء، فيملأون بلدانهم بنصب تماثيل لهم، ظانين أنهم من قبورهم سوف يواصلون التحكم بمصائر الناس ومستقبلهم. المشكل أن ذلك يحصل، إذ يجد بعض الطغاة تُبعًا يحرصون على «تخليد» الزعيم، حيًا أو ميتًا، لا يهم.