لم يتأنَّ.. ونال ما تمنَّى
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
فـــؤاد مطـــر
لم يتأنَّ دونالد ترامب ومع ذلك كان له ما تمنَّى رئيسًا خامسًا وأربعين للولايات المتحدة وعلى نحو ما تمنَّاه الجنرال ميشال عون رئيسًا ثالث عشر للجمهورية اللبنانية.
على مدى سنة كاملة مِن الحدة التي اتسمت بها بعض أقوال ترامب خلال الحملة الرئاسية كان هذا النجم الجمهوري يقتحم أسوار مجتمع رموز العمل السياسي في الولايات المتحدة، مسجلاً بداية ظاهرة أن يترأس الدولة العظمى أحد رجال الأعمال ومن غير العائلات السياسية. وهذه الظاهرة بدت مستغربة في أول الأمر لأن الملف الشخصي للرجل يشبه في بعض حيثياته ملف رونالد ريغان؛ كلاهما من خارج النادي السياسي الأميركي الذي يضم شيوخ الكونغرس ونوابه وحكام الولايات. لكن الاثنيْن، الهوليوودي ريغان والفُندقي - العقاري ترامب، اخترقا المألوف والتقليدي وتقدَّما الصفوف وأخذ كل منهما موقعه في القمة مؤكديْن بما أنجزاه أن الاستثناء يتقدم على القاعدة وأن بين أهل السينما والنشاط العقاري والترفيهي مَن في استطاعته استقطاب الناس إليه.
ما أعنيه بالتأني والتمني هو أننا اعتدنا على الذين ينشطون في العمل السياسي ويتطلعون إلى أعلى المناصب يمهدون لتحقيق مبتغاهم بمخاطبة الناس، مؤازرين كانوا أو منافسين، بالكلام الذي يبعث الطمأنينة في النفوس. لكن الذي سمعْنا ترامب المرشح المفاجئ يردده كان عمومًا خارج التأني وبالذات ما يتعلق بأطياف تعيش ظروفًا اجتماعية استثنائية (المسلمون الذين يعيشون في الولايات المتحدة وكذلك المهاجرون غير الشرعيين الذين يعيشون في عدد من الولايات ويتجاوز عددهم 11 مليونا من جميع الأجناس والألوان والديانات) ترك انطباعًا في نفوسنا بأن هذا الرجل يعتمد سياسة عدم التأني في سبيل الوصول، بينما من يريد تحقيق ما يتمناه عليه أن يتأنَّى انسجامًا مع القول المأثور «مَن تأنَّى نال ما تمنَّى». وإذا نحن أحصينا عبارات عدم التأني التي حفلت بها تصريحات ترامب أمام محازبيه وخلال المناظرات لَرأيْنا أن نسبة عدم التأني تفوق نسبة التأني. ومع ذلك فإن الرجل وجد أمامه شرائح عريضة من الناس ارتاحت إلى أسلوبه رغم حدة هذا الأسلوب.
لكن ثمة عوامل أُخرى أضافت المزيد من الارتياح إلى الأسلوب فكان الفوز الذي بدا مفاجئًا للطبقة السياسية في الولايات المتحدة، كون بعض رموزها يخشون أن يقتحم أولو المال والأعمال وأصحاب المشاريع الفندقية والترفيهية المجتمع السياسي الأميركي، وهذا يؤسس لملامح غير مألوفة في وجه هذا المجتمع.
وقد يكون اختيار الحزب الديمقراطي امرأة تُنازل ترامب الجمهوري أحد هذه العوامل، مما يعني أن الثقافة الاجتماعية الأميركية التقليدية لا تحبذ أن تكون امرأة على قمة السلطة، وربما كان مثل هذا القبول ممكنًا لو أن شخصية هيلاري كلينتون كانت مثل شخصية تريزا ماي التي ترأست الحكومة البريطانية وضمن سلاسة هادئة وانتخاب في غاية الرقي بعد استفتاء خلا من الضجيج. وهنا نجد التأني حقق التمني خلاف عدم التأني في الخطاب الترامبي والذي رغم خشونة مفردات هذا الخطاب بات الرجل سيد البيت الأبيض. وإلى ذلك أن المبالغة في التأييد التي جاءت من الرئيس أوباما وزوجته أحدثت نوعًا من النفور، ربما لأن المشجع هنا، أي أوباما، لم يحقق على مدى ولايتيْن رئاسيتيْن ما يجعل المواطن الأميركي يتمنى لو أن المرشح الذي يحظى بتدعيمه، وهي هنا هيلاري كلينتون، هي أمثولة في حُسْن القيادة تستوجب الاقتداء بها. وعمومًا فإن هذا الذي فعله الرئيس أوباما لن يتكرر من جانب آخرين مستقبلاً، ذلك أن أوباما تصرَّف وكما لو أنه رئيس أميركا «الديمقراطية» فقط، بينما هو كمنصب رسمي رئيس الولايات المتحدة الأميركية، وهذا من حيث المبدأ والأصول لا يجيز له في سباق انتخابي الانحياز إلى متسابق ضد آخر، وخصوصًا أن التجريح والإيحاء بكشف المستور هما مِن مستلزمات السباق ومفردات المرشحيْن اللذين يخوضان السباق.
هل إن حصول التمني رغم عدم التأني يعني أن الأمور انتهت إلى طمأنينة ويستطيع ترامب التربع هانئًا على كرسي الرئاسة في المكتب البيضاوي؟ ربما مِن المستبعد إلى درجة كبيرة حدوث هذه الطمأنينة لأن الرئيس ترامب عَجول على نحو ما، ظهر خلال أشهر السباق الرئاسي غير عابئ بالقول الذي يصاغ بمعظم لغات العالم وهو: «العَجول مخطئ ولو مَلَك والمتأني مصيب وإن هلَك».
إلا أننا ونحن نقول ذلك لا نستبعد حدوث استدارات ترامبية تكون أشبه بالهزات الأرضية الخفيفة من ذات الدرجتيْن. فهذه سنة الحُكْم والحكام لمسناها في السابق لدى كثيرين. ونستحضر هنا على سبيل المثال لا الحصر عبارة الرئيس أنور السادات في خطاب مبايعته أمام البرلمان المصري ذي المسحة الناصرية يوم الأربعاء 7 أكتوبر (تشرين الأول) 1970 حيث قال: «لقد جئتُ إليكم على طريق جمال عبد الناصر. إنني أعتبر ترشيحكم لي هو توجيها بالسير على طريق جمال عبد الناصر...». ولم تمض أسابيع إلاَّ وكان للرئيس السادات طريقه الأشبه «أوتوستراد» في اتجاه الولايات المتحدة عِوَض الاتحاد السوفياتي ثم في اتجاه إسرائيل من دون التشاور مع القادة العرب.
والاستدارات من جانب ترامب ستجعل أطيافًا التفِّت حوله تبتعد بعض الخطوات عنه، وبالذات إذا هو لن يفي بما طرحه في شأن الهجرة غير الشرعية وإقامة الجدار مع المكسيك والعلاقة مع إيران. لكن واحدة من هذه الاستدارات ربما تقي عهده من صُداع لا دواء لديه لعلاجه، ونعني بهذه الاستدارة إعادة تقييمه للإسلام ونظرته التجريحية للمسلمين، ثم إعادة النظر في الوعد المستهجَن من جانبه لإسرائيل والذي في حال تمسَّك به وأقر بالسلوك المريب لجهة الاستيطان وموضوع القدس وصيغة الدولتيْن سيكون توأم «وعد بلفور» الذي تزامنت مئويته مع انتخاب الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة.
خلاصة القول إن مَن يتمنى مطالب بأن يتأنَّى، وإذا كان حدث تعديل صاعق من جانب دونالد ترامب الذي حقق ما تمناه من دون أن يتأنَّى تاركًا لسانه يرمي بأكثر الكلام خشونة، فهذا لا يعني أن المقولة الشاعرية «وما نيْل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابًا» هي المبدأ الصحيح.
وإذا جاز القول فإن الجنرال ميشال عون، الذي نال الرئاسة اللبنانية غلابًا، سيُكثر بعد الآن من التأني، ما دام التمني حدث وقضي الأمر.
أعان الله الجميع ومنحَنا ومنحَهم المزيد مِن سعة الصدر.