لا بريطانيا «عظمى» ولا دول الخليج... «محميات»
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
جورج سمعان
وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون كرر في البحرين قبل يومين ما سبقته إليه رئيسة الحكومة تيريزا ماي. أكد في منتدى «حوار المنامة» أن أمن الخليج هو من أمن المملكة المتحدة. لغة جديدة فرضتها اعتبارات وظروف وتحولات في المشرق العربي وفي القارة العجوز. مثلما فرضها الصراع المحموم والمتعدد الأطراف على اقتسام مناطق النفوذ في المنطقة. فالمشهد الاستراتيجي الذي يتشكل في هذه المنطقة، على أنقاض ما سيبقى من مدن وحواضر في العراق وسورية واليمن، سيرسم ملامح النظام الإقليمي المقبل. وهذا جزء أساسي من النظام الدولي. ورافعة لأدوار ترغب قوى كثيرة في مقدمها روسيا وإيران وتركيا ودول عربية في التوكؤ عليها لتوكيد حضورها وتثبيت مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية. من هنا لم يكن حضور السيدة ماي قمة دول مجلس التعاون الأخيرة مفاجئاً. جاء في سياق مفهوم جديد لدور بريطانيا في العالم بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
قبل نحو خمسة عقود، غادرت بريطانيا «العظمى» منطقة الخليج على وقع تداعيات حرب السويس وصعود الولايات المتحدة وارثة للاستعمار الأوروبي واستعار الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي. لكنها غادرت أيضاً على وقع متاعب اقتصادية متراكمة من مخلفات الحرب العالمية الثانية، ونفقات الانتشار العسكري الواسع لقوات «إمبراطورية لا تغيب الشمس عن أراضيها». وخلفت وراءها دولاً وإمارات كانت تنعم بحمايتها. ولم تكن تتمتع لا بالقوة السياسية والاقتصادية والعسكرية التي هي عليها اليوم دول مجلس التعاون. وهي تسعى اليوم إلى استعادة دور كان لها. لكن بريطانيا لم تعد «عظمى» كما كانت، ولم تعد دول المنطقة ضعيفة ومنهكة و«محميات». الاقتصاد والصراع على الإقليم كانا وراء انكفائها مطلع سبعينات القرن الماضي. وهي تحاول العودة مـن باب هذين العاملين. خروجها من الاتحاد الأوروبي سيخلف متاعب اقتصادية. وليس أفضل من دول الخليج وجهة لتعزيز الشراكة الاقتصادية والتجارية. علماً أن دول الخليج هي أكبر مستثمر في المملكة المتحدة وثاني أكبر مستورد بعد أوروبا للصادرات البريطانية، على ما ذكرت رئيسة الوزراء. وهي تدرك أن ما أصاب الجنيه من تراجع يشكل حافزاً لمزيد من الاستثمار الخليجي في كثير من القطاعات وعلى رأسها القطاع العقاري والتجاري أيضاً. أي أن ثمة مصلحة مشتركة في تعزيز الشراكة بين الطرفين.
ليس هذا فحسب. تشعر بريطانيا في عز الصراع على بناء نظام دولي جديد، وفي حمأة تهافت دول كبرى في الإقليم وخارجه على المشرق العربي، بأن عليها حجز مكانها. ويتعزز هذا الشعور بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي المنشغل أصلاً بمتاعبه، سواء بمواجهة الصعود الروسي، أو بمواجهة تداعيات الحروب الأهلية في أكثر من بلد عربي، خصوصاً تدفق اللاجئين وتمدد الإرهاب... والأهم من ذلك أن المملكة المتحدة التي أخلت مواقعها في الخليج قبل نحو نصف قرن لم تنس كيف هال هذا الانسحاب الأميركيين فسارعوا إلى ملء الفراغ الذي تصاعد حتى كان «مبدأ كارتر» نهاية السبعينات، وعززه خليـــفته رونالد ريغان. بادرت واشنطن إلى الرد سريعاً على تقدم السوفيات نحو المياه الدافئة بغزوهم أفغانستان، وتوقيع اتفاق تعاون مع بغداد. وبادرت أيضــاً إلى رفع التحدي في وجه الإمام الخميني الذي رفـــع شعار «تصدير الثورة». وضعت منطقة الخليج والنفط وممراته الحيوية في صلب أمنها ومصالحها الاستراتيجية. وأنشأت «قوة التدخل السريع» وضاعفت قواعدها وعديد قواتها في المنطقة.
كان هذا في عقد الثمانينات من القرن الماضي. لكن الرئيس باراك أوباما نقل ثقل استراتيجيته ناحية الشرق البعيد. نحو آسيا - المحيط الهادئ. لم يعد الشرق الأوسط أولوية. وكان قرار تراجعه عن ضرب النظام في دمشق إثر استخدامه الأسلحة الكيماوية، في آخر آب (أغسطس) 2013، التحول الذي رسخ هذا التوجه. رسخ مبدأ عدم الانزلاق والتورط في المنطقة. قدم سياسة الاتفاق مع إيران في ملفها النووي على أي اعتبار آخر. وكان من نتائج هذا التوجه، إضافة إلى موقفه من حركات الإسلام السياسي على وقع «الربيع العربي»، تقدم إيران وروسيا في الإقليم. لم يعد هناك أي مبرر أو مسوغ لإرسال جنود أميركيين إلى الخارج، وإن كان الهدف وقف مأساة إنسانية، أو حتى الحفاظ على صورة أميركا قائدة ورائدة. كان هذا انقلاباً على السياسة التقليدية التي نهجتها إدارات سابقة راعت الحفاظ على صدقية الولايات المتحدة حيال القضايا الإنسانية، أو على مفهوم القوة الأولى لسيدة العالم وقائدته.
قادت هذه الاستراتيجية إلى فتور في علاقات واشنطن مع حلفائها التقليديين في الخليج وخارجه. ولم تخف دول مجلس التعاون امتعاضها من هذا الانقلاب في السياسة الأميركية التي لم تراع مخاوفها وهواجسها في إقليم تضربه الفوضى والحروب الأهلية والمذهبية والعرقية، وتتصارع فيه قوى لملء الفراغ من إيران إلى روسيا وتركيا وإسرائيل... صحيح أن أهل الخليج بادروا بعد «عاصفة الحزم» إلى توكيد قدرتهم على مواجهة التحديات. لكن الصحيح أيضاً أن ما أثقل ويثقل كاهلهم هو هاجس إعادة بناء النظام العربي. من هنا كان تصميمهم على إعانة مصر للنهوض من عثراتها الاقتصادية والأمنية. وكان توجههم إلى التوكؤ على تحالف إسلامي عريض يبدأ من تركيا ولا ينتهي بإندونيسيا وباكستان ودول أفريقية عدة. وكان توجههم نحو الشرق، الصين والهند وغيرهما. تصويب الخلل الذي أصاب ميزان القوى في المنطقة يحتاج إلى بناء شبكة علاقات مع قوى كبرى بديلة تعوض الانكفاء الأميركي.
غير أن نتائج هذا التوجه الخليجي خالفت الحسابات والتوقعات. ولم تلق القاهرة بثقلها بقدر ما نهجت سياسة لا تلتقي وسياسات مجلس التعاون، خصوصاً في سورية. فيما أنقرة الحريصة اليوم على تفاهماتها مع روسيا والمتمسكة باتفاقات تجارية واقتصادية ونفطية مع إيران، تحاول أن تقتطع حصة من الكعكة العربية في العراق وسورية. أما باريس فدخلت السباق إلى عقود تجارية واستثمارية في الجمهورية الإسلامية. وتتلاشى الآمال بوعود ومواقف أطلقها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند الذي كان ضيف القمة الخليجية العام الماضي في الرياض. كما أن توجه أهل الخليج نحو روسيا لم يؤد الغرض المطلوب. حسابات وطموحات الكرملين تختلف تماماً، سواء في العلاقة مع إيران أو مع أوروبا والولايات المتحدة. وهناك من نبه باكراً من أن التعويل على موسكو ليس خياراً يمكن الركون إليه. مع أن التوجه إليها واجب وضروري، حتى وإن اقتصر التعاون على التنسيق في شأن أسعار الطاقة. أو أن الجانبين على طرفي نقيض مما يجرى في اليمن وسورية والعراق. توسيع دائرة العلاقات جزء أساسي من حساب ميزان القوى، وأكثر فاعلية من الركون إلى مشروعية القضايا التي ترفعها الدول أو الشعوب. وخير مثال ما واجهته وتواجهه قضية فلسطين.
تعزز بريطانيا حضورها العسكري في الخليج من البحرين إلى سلطنة عمان، في إطار إعادة تموضع سياسي واقتصادي وعسكري. وتوجه أهل الخليج نحو شراكة واسعة معها خيار صائب، خصوصاً أنها تؤكد ربط أمنها بأمنهم وتبدي استعداداً لمواجهة تمدد إيران في المنطقة من سورية إلى اليمن. ولكن يجب ألا يغفلوا عن أنها لن تكون خياراً بديلاً كاملاً عن الولايات المتحدة التي يجب ألا يكفوا عن دفعها إلى إعادة إحياء العلاقات التاريخية الثنائية. علماً أن ثمة إدارة جديدة لا تبشر علاقاتها بمرحلة هادئة مع الجمهورية الإسلامية. إضافة إلى ذلك إن المملكة المتحدة العائدة إلى الخليج لم تعد تلك القوة العظمى التي غادرته من عقود. ثمة قوى ولاعبون إقليميون ودوليون تمددوا في المنطقة لملء الفراغ الذي خلفه سقوط الحرب الباردة ثم سقوط النظام العربي على وقع الحروب الأهلية. ولعل الشاهد على حدود قدرة القوى الكبرى عجزها عن فرض الحلول والتسويات من ليبيا إلى العراق مروراً باليمن وسورية. بالتأكيد تشكل عودة بريطانيا «قوة مضافة» إلى خليج يملك الكثير من أسباب القوة. لكنها ليست البديل عن بناء وحدة خليجية أكثر تماسكاً في السياسة والأمن والاقتصاد. ليست البديل عن استراتيجية لا مفر منها أمام أهل مجلس التعاون لإعادة هيكلة جذرية لكل قطاعاتهم الاجتماعية والاقتصادية والأمنية والعسكرية والتعليمية...