التفاهة الممنهجة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عبدالله بن بجاد العتيبي
يعيش العالم في هذه الفترة الغريبة من تاريخه توجهًا عالميًا نحو التفاهة، كل شيء - تقريبًا - يتم تتفيهه، العلم والسياسة والثقافة والتاريخ والإدارة وغيرها من العناصر المهمة لبناء الدول والحضارة وبناء أي شكلٍ لوعي فردي أو جماعي.
تفاهة اليمين مقابل تفاهة اليسار، وتفاهة القومي تشابه تفاهة الإسلاموي، وتفاهة الصحافي كتفاهة الخطيب، حتى الجدل بين التيارات بات يتحرك في مساحة تافهة تنشط الجماهيرية والشعبوية أكثر مما تنشد بناء الحجج ومناقشة المخالف بعلم وعمق يفيد أي قارئ أو متابع، بغض النظر عن توجهه وقناعاته.
ما يثير الاستغراب حقًا هو أن التفاهة أصبحت منتجًا مرغوبًا، ومبررًا، إما لتعمية الحقائق والتلاعب بها، وإما لغايات سياسيةٍ دوليةٍ أو إقليميةٍ أو محليةٍ، وإما لخدمة تياراتٍ ورموزٍ وجماعاتٍ أفلست آيديولوجيتها وفلسفتها وخطابها، فهي تبحث عن الغوغائية وتنشدها كهدفٍ يمنحها مزيدًا من الوقت والفرصة.
ومن أمثلة ذلك، عصر السرعة بدل عصر الصبر. تطورت البشرية بالصبر في تحصيل العلم والمعرفة والصبر في إعادة إنتاجهما مجددًا وتطويرهما، والصبر في كل الكشوفات في شتى أنواع العلوم، ويكفي أي متخصصٍ في أي علمٍ من العلوم أو فنٍ من الفنون أن يعود إلى تاريخ هذا أو ذاك، ليجد أمثلة لا تحصى من الصبر الطويل المتراكم علميًا وتطبيقيًا حتى الوصول إلى الركائز التي يبنى عليها أي منهما اليوم، بينما نجد التركيز في غالب الفنون والعلوم في العالم المعاصر يعتمد على السرعة ويريدها ويسعى إليها وتكفي متابعة المشهد اليوم لاكتشاف ذلك بسهولةٍ ويسرٍ، مع التأكيد على أن هذا لا يلغي بحالٍ مراكز العلم وجهود العلماء المعاصرين الذين ما زالوا يمنحون العلم مكانته، والفن مزيته ويشقون في سبيل ذلك، ولكن الحديث عن الأعم الأغلب في حال البشرية المعيش.
ومن تجليات عصر السرعة قيام مجالات واسعةٍ للنصب والاحتيال، يسميها أربابها علومًا، وهي خديعة لجمع الأموال من البسطاء أو للبروز بشيء مختلفٍ، حتى إن كان مخزيًا، ومن ذلك ما كان يعرف بعلم «الأنل بي» وعلوم الخرافات العصرية المشابهة، وهي في تشعبٍ وازديادٍ لا في تراجعٍ وانحسار، لا يضعف أحدها إلا ليخرج له بدائل وليس بديلاً واحدًا.
ومن ذلك ما يسميه البعض بالمهارات، ومن حيث المبدأ فالمهارات تكتسب، بل إن بعضها عصي على النسيان مثل مهارة القراءة أو مهارة السباحة أو نحوهما، ولكن الانفجار الهائل في علومٍ ودوراتٍ وبرامج مكلفةٍ ماديًا تزعم أنها تكسب الفرد مهارات لا تصدق وربما لا تفيد، مثل أن يعلن بعضهم أن دورةً ليومٍ أو يومين تمكن المتخرج منها من قراءة ألف كتابٍ في ساعاتٍ أو أيام محددةٍ، ودوراتٍ تقول لمرتاديها إنك يمكن أن تصبح مليونيرًا دون أي جهدٍ وعناء وغيرها العشرات من الأمثلة.
ومن الأمثلة - أيضًا - عصر الإنجاز بدل عصر الإتقان. وهو أجدى بأن يسمى عصر الحماقات السريعة بدل عصر الأفكار الناضجة، ومن ذلك ظاهرة الخضوع لقيادة الجماهير بدل أن تقود النخب التي يفترض بها القيادة منطقيًا، فالإنسان الذي تعب في العلم والمعرفة والتخصص حتى بلغ منها مبلغًا يؤهله للانتساب للنخبة ليس مثل من اختار الانشغال بتوافه الأشياء، ووصف النخبة والعامة أو الجمهور أو الغوغاء ليس سبةً، بل وصف على اختلاف دلالاتها بالطبع. وهذا أحد أكبر الانتقادات التي تورد على الديمقراطية كمفهومٍ وكآلية معاصرةٍ، والجدل الذي ثار في بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي شاهدٌ، وما تبعه من جدلٍ قادته بعض الصحف ضد القضاة كان انسياقًا وراء التفاهة، والأمثلة كثيرةٌ.
وفي إطار ذلك يتمّ تتفيه المفاهيم بحجة تبسيطها، وتجييش العامة ضد أهل العلم والمعرفة والثقافة، وأصبح «الهاشتاغ» أقوى من الاستطلاع العلمي، وأصبح المجهول والصغير والجاهل يقدم نفسه ندًا للمعروف والحكيم والعالم، وأصبح عاشق الكتاب أقل قدرًا من عاشق وسائل التواصل، وأصبحت المنافسة لا في التعمق في العلم، بل في التكثر بالأتباع أو المتابعين.
فأصبح الكم أهم من الكيف، والديمقراطية مقدمة على أصلها، أي الحرية والعدالة، ولنأخذ مثالاً على المستوى الدولي، جاء الرئيس الأميركي باراك أوباما على كتف أسباب من أهمها قدرته على استقطاب شبابٍ غرٍ بلا علمٍ ولا وعي، فنكب أميركا ونكب حلفاءها ونكب العالم.
لا يمضي التاريخ صعودًا دائمًا ولا هبوطًا مستمرًا. ولكنه يمر بدورات، وقد كان الجهد الإنساني الذي بنى الحضارات والثقافات جهدًا فرديًا ونخبويًا بالأساس، ولكنه تحوّل لعملٍ جماعي ومؤسسي في ظروف متعددة وسياقات مختلفة حول العالم، ونحن فيما يظهر في لحظة هبوط وتقهقر في حراك التاريخ.
كان تطور المواصلات عاملاً فاعلاً في تبادل العلوم والخبرات وتنقل الحضارات، وكذلك كان تطور الاتصالات التقليدية والحديثة، ولكننا نعيش اليوم انفجارًا في تقنيات التواصل الاجتماعي من مواقع وتطبيقات وغيرها، ومع الإقرار بأن تطور العلم مفيد للبشرية إلا أن ذلك لا يمنع من رصد الظواهر السلبية وتأثيراتها، وهو أقرب ما يكون للجدل حول مفهوم «التخصص» العلمي بين تطور العلوم ومسؤولية المتخصص الأخلاقية.
لا أحد يزعم أن مواقع التواصل وتطبيقاتها الذكية تصنع عالمًا أو تطور علمًا، فذلك مجال مختلفٌ، فهي مواقع كاسمها للتواصل بين البشر، وهي مواقع تعتمد على قضية اليوم الواحد وعلى التشتت في تلقي المعلومات أو قراءتها وتحليلها، وعلى ترتيب عشوائي تتحكم فيه عوامل ليس من بينها التحقق والتمحيص، بل الرغبات والاهتمامات أو لمجرد البقاء في الصورة لا أقل ولا أكثر.
المصيبة الأكبر تأتي حين ترضخ بعض الحكومات أو المؤسسات الكبرى التي يفترض بها نشر العلم والوعي لرغبات الناشطين والناشطات، فتخلط بذلك بين الشعب وعناصر فاعلة منه في تلك التطبيقات، قد تكون منظمةً من مجموعةٍ ما، وقد تكون مدعومة من جهاتٍ خارجيةٍ أو منافسةٍ، وقد تكون تخريبية لوجه التخريب.
ظلّ الفرد يعتقد على الدوام أن الدولة أو الشركة الكبرى تتآمر عليه وتحرمه من حقه، وهذا جزء مهم مما تمثله هذه المواقع، فتداولات التافهين تنحو دائمًا نحو الإدانة، بينما تداولات العلم تتجه نحو الحقيقة وتداولات الوعي تنحو نحو التميز والكفاءة.
أخيرًا، عصور انتشار الجهل والتفاهة عبر التاريخ بحاجةٍ لدراساتٍ معمقةٍ عن أسبابها ونتائجها، وعصر التفاهة الممنهجة اليوم يدعو لحاجةٍ أكبر وتقصٍ أوسع لمحاولة بناء مستقبل أفضل.