جريدة الجرائد

الشعبوية.. من عار مستتر إلى واقع معاش

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

محمد كركوتي

"بريطانيا العظمى خسرت الإمبراطورية ولم تجد بعد دورا لها"

دين أيشون وزير خارجية الولايات المتحدة الراحل

كلما اقترب موعد تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة الأوروبية الخاصة بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان على الساحة المحلية في المملكة المتحدة، مزيد من الحقائق، بل لنقل جملة من المفاجآت التي ستأتي بعد الانسحاب. وهذه الحقائق ـــ المفاجآت تختص انطلاقا من تكاليف الانسحاب، وانتهاء بحالة بريطانيا الأوروبية، مرورا طبعا بالشروط والاتفاقات التي ليس بالضرورة أن تصب في المصلحة العامة للمملكة المتحدة. وهذا ما يؤكده كبار المسؤولين الأوروبيين في المناسبات وغيرها. الجانب الأوروبي واضح في هذا المجال، وهو يستند إلى حقيقة أنه لا معاملة تفضيلية لبريطانيا بعد الانسحاب الفعلي من الاتحاد، وأنها لن تحظى حتى بوضعية بلدان مثل النرويج وسويسرا وليختنشتاين. ببساطة واضحة جدا أيضا، ستدفع لندن ثمن خروجها بصورة أكبر مما تتصور، والمملكة المتحدة، ستجد نفسها ليس في مهب الريح، بل على حافة هذا "المهب"، خصوصا مع تشديد القيود المتوقعة على التعاملات البريطانية الأوروبية.

باتت واضحة الخسائر التي وقعت بالفعل منذ الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتلك الآتية بعد تنفيذ الانسحاب. لكن بلا شك أن الخسائر الناجمة عن التوجهات الشعبوية للبريطانيين وغيرهم من المواطنين الأوروبيين، أكبر بكثير من مجرد انسحاب دولة عضو من الاتحاد الأوروبي، حتى ولو كانت هذه الدولة بحجم ومكانة وتاريخ بريطانيا الأوروبي العالمي. وعلى الرغم من أن نسبة الذين صوتوا لخروج بريطانيا ليست كبيرة، لو وضعت ضمن إطار المسألة التي جرى الاستفتاء عليها، إلا أن هذه النسبة عكست حقيقة المحلية الانغلاقية في بريطانيا الناتجة عن المشاعر الشعبوية التي باتت لها سوق كبيرة ومتوسعة في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية التي انفجرت عام 2008. هل كان قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي متأثرا بهذه الأزمة؟ الجواب نعم. وهذا ما يبدو واضحا في غير دولة أوروبية بما فيها ألمانيا وفرنسا الدولتان الأكثر احتضانا للاتحاد الأوروبي عاطفيا واقتصاديا، بل والأكثر "قتالا" من أجله.

قبل ثماني سنوات تقريبا، كان ينظر للشعبوية في عدد كبير من بلدان القارة الأوروبية نظرة مشينة، وأولئك الذين اتسموا بخصائصها، كان ينظر إليهم وكأنهم غرباء عن المشهد الاجتماعي الوطني العام. هذا لا يعني أن المجتمعات كانت متسامحة بصورة عمياء، بل كانت منفتحة بصورة تكرس التسامح الحقيقي. والسبب وراء هذا الحال المجتمعي الصحي، أن جميع مكونات المجتمع كانت تشعر آنذاك بالأمان الاقتصادي – المعيشي، بل كانت تنظر برؤية واسعة الآفاق لما بعد الأجيال الحالية، وكانت هناك قناعة لدى شرائح واسعة من هذه المجتمعات، بأن الانفتاح بكل أشكاله، يوفر حصانة ضرورية في المستقبل، ليس فقط على صعيد الكوادر المؤهلة، والفئات التي تقدم الخدمات المختلفة اللازمة، بل أيضا من جهة العدالة الإنسانية، التي تمثل في البلدان الراشدة، محورا رئيسا بأشكال مختلفة.

في أعقاب الأزمة العالمية الكبرى، تبدل كل شيء تقريبا. ويعترف يورين ديسلبلوم رئيس مجموعة اليورو بهذه الحقائق المتجددة، واعتبر أن جزء الشعبوية الراهنة على الساحة الأوروبية، يعود للأزمة الاقتصادية العالمية التي أكلت الأخضر واليابس حقا، ودفعت العالم للدخول في حالة ذهول طويلة، وجردت المجتمع من "أسلحته" التي يصون نفسه بها، ونشرت أفكارا كانت حاضرة على الساحة الأوروبية قبل عقود طويلة. وظن العالم أنها انتهت إلى غير رجعة، لكنها عادت، وبدلت الأزمة حتى في التركيبة السلوكية للناس، ولا سيما في العالم الغربي، والسبب في هذا التحول الخطير لا يوجد أوضح منه، وهو، أن ثقة الناس وضمان رواتب التقاعد، وسبب إيجاد الوظائف وفرص العمل، كلها راحت في مهب الرياح. كان سهلا أن تنطلق الأصوات الانعزالية التي ظلت صامتة طوال عقود، لتعمل على تهييج المشاعر الشعبوية التي بدأت مشاعر محلية ضيقة، لتتحول إلى وطنية واسعة.

الاستفتاء البريطاني على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي يشكل إحدى نتائج تحولات الأزمة الاقتصادية العالمية، وتقدم أحزاب اليمين في هذا البلد أو ذاك، نتيجة أخرى. بل إن انتخاب دونالد ترمب رئيسا للولايات المتحدة يدخل ضمن النطاق ذاته. بمعنى، أن آثار الأزمة الاقتصادية التي انفجرت عام 2008، ماضية قدما بأشكال مختلفة. والجميع يتحمل المسؤولية عن هذه الأزمة، وفي مقدمتها الحكومات التي تصرخ حاليا خوفا من التمكين الشعبوي ضمن مجتمعاتها، ورعبا من انعزالية ستكون قاتلة لكل الأطراف بصرف النظر عن انتماءاتهم ورؤاهم السياسية الاجتماعية. وهذه الحكومات التي تصف نفسها بـ "العاقلة"، لم تكن كذلك عندما سمحت لمعايير السوق أن تتحكم في أخلاقيات المجتمع، وترك الحبل على الغارب، كما يقولون، لمصارف كبرى تتحكم في فترة من الفترات في دول بأكملها. إنه الثمن الذي يدفعه العالم حاليا ليس فقط بانسحاب بريطاني من الاتحاد الأوروبي، بل بتقدم تيارات سياسية خطيرة كانت حتى وقت قريب ينظر إليها على أنها مشينة للإنسانية.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
شعبويون
عبدالله العثامنه -

أطلقوا لحاهم؛ .