ألوان أفريقيا وأصواتها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سمير عطا الله
آيزاك دَنِسن هو الاسم المستعار للبارونة الدنماركية كارين بليكسن، التي وضعت إحدى أشهر التحف الأدبية عن القارة السمراء. ولدت كارين العام 1885، وبعد أن درست الفنون في كوبنهاغن وباريس وروما، تزوجت من ابن عمها البارون بليكسن العام 1914، وبعدها ذهبا إلى كينيا لإدارة مزرعة هائلة للبُن. تطلَّقا العام 1921، لكنها استمرت في إدارة المزرعة حتى 1931 عند انهيار سوق القهوة في العالم.
يعتبر كتاب «خارج أفريقيا»، أو «الخروج من أفريقيا»، من أجمل القراءات التاريخية والانطباعية. وهو يروي في أسلوب فائق السلاسة وحافل بالتفاصيل، يوميات السيدة الدنماركية بين الأفارقة في تلك المرحلة. تعمل معهم بالتجارة، وتعقد الصفقات مع التجار العرب أو القادمين من الهند، وتندمج في حياة الغابة بعيدًا عن مدنيات بلدها الأم. فصل وراء فصل، متعة وراء متعة، حكاية وراء حكاية. مرة عن لبؤة تركت المزرعة فجأة إلى زواجها، ولم تعد إلا ومعها زوجها الخجول من الناس، ومرة عن صومالي متديِّن يرفض أن يقربه كلب الحراسة، لكنه يقول للبارونة إن الكلب من النوع الطيب الذي يعرف بحاسة الشم أنه لا يجب الاقتراب من مؤمن. تظهر ألوان أفريقيا وأصواتها وأصوات طيورها، وأصوات أمطارها، وأصوات أنهارها، وأصوات جبالها، وأصوات البراري الخلاّبة، في دفتر واحد لعله أجمل الدفاتر البيضاء التي خرجت من أفريقيا، أو على الأقل، أكثرها موضوعية وإنصافًا.
في أحد أرقّ الفصول، تروي البارونة أنها لدى أول وصولها إلى أفريقيا قررت أن تتعلم اللغة السواحيلية، فأشاروا عليها بشاب سويدي يعمل في المزرعة. وبدأ الشاب بتعليمها الأرقام، فلما وصل إلى القول سبعة، ثمانية، توقف دون الرقم تسعة، وتطلع بعيدًا بخجل وقال لها: «آسف يا سيدتي، لكن ليس هناك الرقم تسعة في اللغة السواحيلية».
أدركت البارونة من خجل الشاب أن الرقم تسعة له رنين سيئ في اللغة الدنماركية، لكنها عادت تسأله: «هل تعني أنهم لا يعدّون إلا إلى الرقم ثمانية؟»، فأجاب بسرعة: «أجل، إن لديهم 10 و11 و12 وما إليها، لكن ليس لديهم الرقم تسعة». فعادت تسأل: «كيف يمكن ذلك؟ وماذا يحصل عندما يصلون إلى الرقم 19»؟ فعاد الشاب الخجول يقول: «وليس لديهم الرقم 19 أيضًا»، واحمرّ وجهه كثيرًا وهو يُضيف: «ولا الرقم 290، ولا الرقم 900، لأن هذه الأرقام في السواحيلية مأخوذة من الرقم 9، وفي ما عدا ذلك فإن لديهم جميع الأرقام التي تعرفين».
تجاهلت البارونة افتقاد الرقم تسعة، ومضت تملأ أيامها ومحاصيلها ومواسمها بخصب الأرض الأفريقية. وتركت عن تجاربها مجموعة من الكتب، لكن هذه التحفة الكلاسيكية غطَّت على كل إنتاجها الآخر، خاتمة برسالة حملها إليها ساعي البريد الهندي عن كسوف قريب للقمر يقول فيها إنه عَلِم بأن الشمس سوف تُطفأ طوال سبعة أيام يعم خلالها الظلام، فهل تسمح له البارونة بأن يرسل قطيعه من الغنم للرعي في مزرعتها طوال تلك الفترة.