سلامٌ بيتَ لحم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
بكر عويضة
ليس سهلاً أن يهل «كريسماس» آخر، بينما غريب الدار لم يزل سائحًا في ديار الغربة، فلا يرحل القلب حاملاً ما تبقى من أنفاس إلى تراب بلاد كُتِبَ في كل كُتِبِ السماوات أنها أرض سلام، إنما قُدِر لها أيضًا أن يُروى عجين طينها، على مر القرون والعصور، بدم ينهمر من أجساد أقوام الديانات الإبراهيمية الثلاث، وأن تُطوى الأبدان في ترابها ليس يميّز أهل كتاب عن قوم آخر. طوبى، إذنْ، لكل من إذ يسبِّح وتسبِّح بحمد خالق الكون، تخفق الروح منه ومنها، بكل ثقة واطمئنان، أنه يملك ملكوت كل شيء، له يسلِّم المؤمنون والمؤمنات الأقدار، فيرضون بما قَدّر لهم ولهن، تراهم يشكرون في الضراء صابرين، وفي السراء فرحين، كيف لا، أليس هو وحده من له تُسلَّم المقاديرُ؟ بلى.
بيد أن تسليم الإنسان بمشيئة الخالق، كما يعرف كل من طرق أبواب علوم المعرفة، لم يعنِ يومًا التنصل من مسؤولية العمل، إنما النقيض هو الأسلم، فالإيمان ولو أنه يُعمِّر القلوب بالطمأنينة، ويغمرها بدفء الأمان، فإنه بلا سعي جاد مقترن بعمل دؤوب، لن يحقق الإعمار، ولن يثمر الزرع، وإذ ذاك لن يسد الإيمان وحده الرمق، فلا يُطعم من جوع، ولا يروي ظمأ العطاشى، بل الأرجح إذا التربة أُهمِلت أن يأتي صبح وقد تصحّرت، وربما فاضت الأنهار، أو اضمحلت، أو جفت تمامًا، إنْ هي تُركت بلا رعاية تأخذ بعين الاعتبار تقلبات الطبيعة وتغيّر مجريات الطقس. أليست العِبر والأمثال موجودة أمام أعين ترى وقلوب تبصر، تحدِّث الناس عما ساد من حضارات ثم بادت، وعن بحيرات وأنهر كانت تسر الناظرين بأمس قريب، إذ من حولها تخضّر الأرض وتلبس أبهى زينتها، فإذا بها صارت بعضَ ذكرى زمنٍ تولى، وخبرَ ماضٍ بعيد؟ بلى.
هكذا، بالعمل الدؤوب المستند إلى إيمان راسخ في القلوب، ورغم أعاصير عاتية عصفت بها عبر التاريخ منذ الزمن الكنعاني، صان أهل بيت لحم الأمناء قدسية مدينتهم، وظلوا حُرّاس بهاء مكانتها كما قررتها السماء، مذ تشرّفت باختيارها مهدَ ولادة رسول السلام، المسيح عيسى ابن مريم، صلوات الله وسلامه عليهما. حقًا، لو أن وفاء أي شعب للوطن لم يقترن بإخلاص العمل، وصفاء النيّات، فما العجب إذا تفتتت أوطان وضاعت بلاد وتشردت أقوام في منافي الشتات؟ تساؤل لعله يرن في أذن كل من يتابع فيرى ويسمع آلام الضحايا المنكوبين بويلات حروب النصف الثاني من القرن الماضي، والمتصلة بما تبعها، أو نتج عنها، من حروب أول ستة عشر عامًا من ألفية الميلاد الثالثة، التي على الأرجح تمهد - رغم نفي بعض السياسيين - لانفجار ثالث حرب كونية، سيكون وقودها السلاح النووي.
عند منتصف ليل السبت المقبل، تقرع أجراس كنيسة المهد في بيت لحم، مؤذنة ببدء قداس الاحتفال بميلاد يسوع المسيح، المُرسل من السماء برسالة السلام للبشرية جمعاء، وسوف ترتفع ترانيم الصلوات من أقدم كنائس العالم، تلك المشيدة فوق مغارة شهدت ولادة طفل كلّم الناس في المهد إذ يرد على حيرتهم إزاء معجزة ولادته، وعلى بعد عشرة كيلومترات سوف تتردد الصلوات ذاتها تحت سقف كنيسة القيامة في القدس القديمة قِدَم أزمان تلك الأمكنة، ومن الفاتيكان إلى مختلف العواصم في الشرق والغرب ستعلو أصوات الدعاء أن يعم الرخاء، ويسود السلام بين أمم الأرض وشعوبها، فهل يصغي السمع ساستها؟
أشك، التجارب تثبت أن معظم ساسة عواصم الدول الكبرى غير معنيين بإنقاذ البشرية قدر اهتمامهم بتنفيذ أجنداتهم، أما الأسباب فليست بحاجة لتوضيح، ولو من منطلق احترام عقول قراء هذه الكلمات. مع ذلك، أتمنى أن يستجيب لنداء صلوات السلام، في مسقط رأس المسيح، أولئك الذين بأيديهم مفاتيح الحل والربط من زعماء تنظيمات الفلسطينيين وحركاتهم، فيقدموا على عمل جاد يحقق التصالح بينهم لأجل مصالح شعبهم. أليس عجيبًا أن يتعارك أشخاص داخل تنظيم فلسطيني على زعامة الدولة حتى قبل أن تقوم للدولة قائمة؟ حقًا، ألم يحِن أوان خلاص الفلسطينيين من أنانية انقسام الزعامات على نفسها لأجل مصالحها؟ ثم، أليس غريبًا تقاعس المدن في العالمين العربي والإسلامي عن التوأمة مع بيت لحم؟ أقول ذلك إذ لاحظت أن ثلاث مدن عربية فقط، هي الرباط، وأبوظبي، ومادبا، بين تسع وأربعين مدينة توأم مع بيت لحم. إنها مدينة حقيقٌ بها السلام، وهي له أهل وإشعاع، فسلام لها وعليها.