جريدة الجرائد

الجنادرية.. تجدد في مسار تنويري!

-
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

&&زهير الحارثي

&المُلهم في تجربة الجنادرية أنها لم تعد حضورا مؤقتا او طارئا بل مشروعا ثقافيا وفكريا تجذر في حياتنا في العقود الثلاثة الأخيرة عبر تراكم تجارب وخبرات

حركة تطور المجتمعات، والتاريخ تكشفان عن أن الفكر الإنساني هو الذي قاد التحولات الكبرى في الحضارة الإنسانية. كان الوعي وما زال هو الأداة الأساسية التي تدفع الإنسان باتجاه التفاعل في حياته كونه هو غاية التنمية والحضارة ومحورهما.

&

لا نستطيع قياس مستوى تقدم شعب من الشعوب إلا بمقدار فاعلية حركة الوعي والثقافة في تركيبته المجتمعية، لأن مكانة المجتمع تتضح في قدرته على فهم قوانين الحياة واستيعاب تراكم تجارب التاريخ.

ولعل الجنادرية التي نحتفل بمهرجانها الثلاثين غدا برعاية المليك، تؤكد ان إشعاعها التاريخي والتراثي والثقافي ما هو الا انعكاس لحراك مجتمعي استمر ثلاثة عقود وصورة منجز لمسار بلادنا التنموي والحضاري بدليل انطلاقها نحو افق التنوير، متجاوزة كل العوائق التي سعت لتقويضها.

نعلم ان تشكل الحداثة والتنمية من جهود الأفراد الذين يعيشون في داخل المجتمع، لا من خارجه. ولذا فالعملية التنموية لا بد وان تأخذ في الاعتبار البعدين العقلاني والأخلاقي في الإنسان من اجل تفجير طاقاته، وهذا يتسق مع ما قاله كانط بأن الثقافة ما هي سوى "مجموعة من الغايات الكبيرة التي يمكن للإنسان تحقيقها بصورة حرة وتلقائية انطلاقا من طبيعته العقلانية".

&

المُلهم في تجربة الجنادرية أنها لم تعد حضورا مؤقتا او طارئا بل مشروعا ثقافيا وفكريا تجذر في حياتنا في العقود الثلاثة الأخيرة عبر تراكم تجارب وخبرات، فما لبث ان حجز موقعه في الساحة الثقافية.

&

الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله له الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في ترجمة تلك الرؤية الى واقع. خرج علينا رحمه الله بفكرة عبقرية آنذاك كرس بها الثقافة من خلال بوابة العسكرية.

تحول المشروع من كونه مهرجانا شعبيا الى محفل ثقافي ومنبر فكري تجاوز بهما المحلية متجها في مساره للعالمية.

والمثير للإعجاب ان مؤسسة عسكرية تقوم بواجبها الأمني لا تبرح ان تكون حاضرة بدورها الوطني والتنويري عبر فتح الباب لحوارات فكرية ناهيك عن اهتمامها بالجوانب التراثية والثقافية.

اللافت أيضا في الجنادرية هو في قدرتها على التجديد رغم صعوبة ذلك في وقتنا الراهن مع كثرة المغريات وتسارع المتغيرات، كما اننا لا يمكن ان نتجاهل الجهود الكبيرة التي بذلها الأمير متعب بن عبدالله في إحداث نقلة نوعية لمناشط الجنادرية وتوسيع عوالمها.

صحيح ان بداياتها كانت متواضعة ومحلية لكنها سرعان ما ارتقت لمراتب اعلى حيث تناغمت مع المعطيات فدمجت الاحداث الغابرة بالقضايا المعاصرة وسعت لتعزيز تلاقح الثقافات من خلال الاحتفاء بمشاركات دول من اصقاع العالم. وعلى أي حال مهمة ليست يسيرة للجنادرية في الاستمرار على هذا المنوال ولكن طالما توفرت الإرادة والتخطيط والتنفيذ فان المراد قد نصل اليه في نهاية المطاف.

يأتي حضور الجنادرية بهذه الصورة الحية والدائبة هو دلالة على مكانة وقيمة هذا البلد. والحقيقة ان نائب وزير الحرس الوطني عبدالمحسن التويجري كان محقا عندما قال "إن مجرد الحفاوة بالتراث لا تعد نكوصا وعجزا عن مسايرة عطاء الحاضر وإنما تبصرا في واقع الحال وتعاملا بلغة العصر الذي يدعو الأجيال أن تكون متصلة بماضي أمتها وتاريخها العريق".

&

ان المهرجان يحترم عقل الانسان ويضع التاريخ في المكان الذي يليق به، ويزاوج بين وجهات النظر ويثري الساحات، جالباً كل الاطياف والاصوات والرؤى دون تحيز لهذا الطرف او ذاك كونه مشروعا ثقافيا يسعى للارتقاء بالمجتمع علما ووعيا وذائقة.

ومع تمنياتنا هذا العام بأن تسير الأمور وفق ما خطط دون تشويه هذه التظاهرة الحضارية الا اننا اعتدنا مع كل مناسبة سنوية للجنادرية ان نسمع أصوات نشاز تهاجم المهرجان وتقف ضده لأسباب لا علاقة لها بالدين او بثقافة المجتمع السائدة بقدر ما ان هدفها هو إعاقته لأنه فقط يتعارض مع اجندتها.

ونرجو الا تتكرر تلك الممارسات الاستفزازية التي تتنافى مع النسق المجتمعي العام، فضلا عن تشويهها المنجز الحضاري الذي حققته الجنادرية.

هذا الامر ليس بالجديد وسبق ان قلت ان عرقلة مسار التطور الإنساني، بمعنى ان هناك تخلفا فكريا في الحياة الاجتماعية، من خلال تشويه الحقائق وتزييفها، والاهتمام بالشكليات على حساب المضمون، ناهيك عن غياب الرؤية العقلانية. ولا تخلو بعض المجتمعات من فئة مناهضة للتغيير بتكريسها نمطا من ثقافة الممانعة الاجتماعية او بعبارة أخرى تعطيل العقل بدعوى قناعات ليست بالضرورة صحيحة.

البعض يرى ان هناك تناقضا ما بين بعض العادات والتقاليد، وضرورات العصر ومتطلباته، ما يعني ان المسألة هنا تتعلق بحالة من الاشتباك والتداخل ما بين النص والعادة صنعها بعض المتشددين ولا سبيل لإنقاذهم سوى فك هذا الاشتباك المتخيل في اذهانهم، ناهيك عن اسلوب الحزم من قبل الدولة في التعامل مع هذه الفئة التي ترتكب افعالا مجرمة شرعا وقانونا.

صفوة القول: بات لافتا ديمومة الجنادرية في بث رسالته الحضارية وإغناء التجارب الثقافية والانفتاح على الحضارات والتواصل مع الشعوب من خلال مشروعه التراثي الإنساني التنويري، وهو مسار يرنو فيه للعالمية وهي مهمة ليست يسيرة ولكنها غير مستحيلة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف