جريدة الجرائد

رسالة ذات معانٍ سامية

-
قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

&سليمان جودة&&

لم يشأ الأمير فيصل بن سلمان، أمير منطقة المدينة المنورة، أن يخرج ضيوفه من عنده، إلا وقد حمل كل واحد منهم رسالة يتحرك بها، ثم بوحي منها، حيث اتجه.

أما ضيوف الأمير فقد كانوا رؤساء بعثات الحج من الدول العربية والجاليات الإسلامية، الذين استقبلهم في رحاب مدينة الرسول الكريم، الأسبوع الماضي.

وأما الرسالة التي أراد الأمير أن تكون مستقرة في عقل رئيس كل بعثة، فتعود إلى العام الأول للهجرة.. أي إن 14 قرنًا، مضافًا إليها 37 عامًا قد مرت عليها، منذ هاجر النبي عليه الصلاة والسلام من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.

يومها أدرك القائد الفذ، والسياسي الحصيف محمد بن عبد الله، أن مجتمعًا جديدًا، ووليدًا، وناشئًا، يقوم على يديه الشريفتين، وأن هذا المجتمع لن يصمد في وجه المتربصين به إلا إذا كانت قيم محددة، وراسخة، وقوية، تحرسه، وتحيط به كما يحيط السوار بالمعصم.

ولم تكن تلك القيم سوى قيم التسامح، والرحمة، والعدل، والتعاون، والتكافل الاجتماعي، التي يبحث عنها عصرنا اليوم، وتبحث عنها كل دولة فيه، وتراها سياجًا للأمن في أي مجتمع.

يومها أيضًا دعا الرسول الكريم إلى إبرام معاهدة بين المهاجرين والأنصار في المدينة، وبين يهودها، الذين وجدهم فيها، وقد أورد ابن هشام نص المعاهدة كاملاً في سيرته، وهناك من المؤرخين من يسميها حلفًا، وهناك منهم من يسميها معاهدة، ولكنها في كل الأحوال، وأيًا كانت تسميتها، كانت، ولا تزال، تؤسس لمجتمع صحي، ومجتمع متماسك حقًا، ومجتمع قوي بأفراده، وهو لن يكون مجتمعًا بهذه الصفات كلها، وبغيرها من الصفات مما يشبهها، إلا إذا آمن كل فرد فيه بحق الآخر في الحياة معه، بالحقوق نفسها، والواجبات ذاتها.

ولست أجد شيئًا يؤكد كل المعاني التي جاءت في المعاهدة، ويرسخها، إلا تلك القصة المؤكدة التي رواها الرواة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، والتي من خلالها يستطيع كل إنسان أن يستشف كيف كان نبي الإسلام يفكر، وكيف كان بالتالي يتصرف، وماذا كان يحمل للعالم.

لقد رووا عنه أنه كان جالسًا مع أصحابه ذات يوم، فمرت جنازة من أمامهم، فإذا بنبي الإسلام يقف حتى تمر الجنازة من أمامه، وعندئذ، تقدم واحد من الصحابة إلى الرسول يريد أن ينبهه إلى ما عسى قد يكون فات عليه.. فهو عليه الصلاة والسلام بشر في غاية الأمر.. تقدم الصحابي ليقول: إن الجنازة ليهودي يا رسول الله.. وهنا ردّ الرسول بعبارة سوف تبقى درسًا في حدّ ذاتها مهما تعاقبت عليها الأعوام والسنون.. قال: إنها لإنسان!

عبارة من كلمتين اثنتين، ولكنها تلخص عالمًا بأكمله.. عبارة تقول إن الإنسان في نظر الإسلام هو إنسان وفقط، هو إنسان من حيث هو إنسان بصرف النظر تمامًا عن دينه، وعن لونه، وعن جنسه، وعن شكله، وعن كل ما يمكن أن يجعل شخصًا مختلفًا عن شخص آخر.

تلك هي المعاني التي أراد أمير المدينة المنورة أن تكون مجسدة أمام ضيوفه من رؤساء بعثات الحج، وتلك هي المعاني التي أجد أننا جميعًا مدعوون إلى أن نتحرك بها بين الناس طول الوقت، حتى لا ندع الإسلام بسماحته الأولى، وبفطرته الأولى، في يد من يريد أن يصوره كل يوم على غير صورته، وعلى غير حقيقته.

إنني أعود إلى المعاهدة التي أبرمها رسول الإسلام بين المسلمين في المدينة، وبين اليهود، والتي أراد الأمير فيصل بن سلمان أن تكون محور حديثه مع ضيوفه، فأقرأ فيها السطر التالي: وإنه من تبعنا من يهود فإن له النصرة والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم.

ثم أعود إلى ما كتبه الدكتور حسن إبراهيم حسن، صاحب كتاب &"تاريخ الإسلام&" الصادر في أربعة مجلدات، لأرى ماذا قال وهو يتعرض للمعاهدة، وماذا كتب عنها، فأقرأ له أنها: كفلت لليهود في المدينة التمتع بما للمسلمين من حقوق.

أعود ثم أسأل نفسي عما يجب أن يفعله كل واحد منا في مكانه من أجل نشر مثل هذه المعاني، ومن أجل التأكيد في كل مناسبة على أنه ما من معنى جاء في المعاهدة إلا ويمثل مقصدًا من مقاصد الإسلام العليا، التي أمر كل مسلم بأن يحملها معه في كل مكان، وأن تكون دون غيرها، عنوانًا لا يتوه منه أبدًا، وهو يتحرك فوق الأرض.

وأظن أن هذه بالضبط هي الرسالة التي وضعها أمير مدينة الرسول في يد كل ضيف من ضيوفه، وهم يغادرون المكان!

&

&

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف