حقيقة الكذب في السياسة الدولية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
خليل علي حيدر
عن الكاتب
أرشيف الكاتبتاريخ النشر: الأحد 08 يناير 2017
هل ثمة مفر من الكذب والخداع أحياناً في المجال السياسي والعلاقات الدولية؟ أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو الأميركية، وضع كتاباً ينفي ذلك؟ بعنوان «لماذا يكذب القادة؟» يعري فيه «حقيقة الكذب في السياسة الدولية»، نشر ضمن سلسلة عالم المعرفة في الكويت بترجمة د. غانم النجار 2016.
اقترنت السياسة بالخداع والمبالغة ربما منذ ظهورها، إلى أن ظهر المفكر الداهية «نيقولا ميكيافيلي»، فأرسى «الأساس الأخلاقي» للخداع، وأعلن صراحة أن ما يعتبر من الأخلاق الحميدة والاستقامة بين الأفراد.. قد لا يصلح في السياسة والحكم.. والعلاقات الدولية!
«من يحجب الحقيقة»، يقول المستشرق الألماني «ماكس مولر» الذي حقق ونشر وترجم أكثر من خمسين مجلداً من سلسلة «كتب الشرق المقدسة» عام 1875 وما بعده، «إما مجرم أو جبان.. أو كلاهما». غير أن هذا لا ينطبق بالضرورة على الدبلوماسيين مثلاً. وقد أطلق السير «هنري ووتون»، الدبلوماسي البريطاني في القرن السابع عشر، تعليقاً مشهوراً، بأن السفير هو «رجل أمين أُرسل إلى الخارج، ليكذب من أجل مصلحة دولته»!
يقول مؤلف الكتاب «ميرشايمر» إن الدول قد تكذب أحياناً لتحسين وضعها العسكري استعداداً للعمليات العسكرية في زمن الحرب. «ففي الحرب العالمية الثانية مثلاً، أطلق البريطانيون حملة تضليل واسعة ضد ألمانيا النازية، كان الكذب فيها أمراً عادياً. وفي هذا السياق قال تشرشل كلمته الشهيرة، «في زمن الحرب يصبح الصدق شيئاً ثميناً، لابد أن يُحاط بسياج من الأكاذيب».
لماذا تكذب الدول بعضها على بعض، يتساءل المؤلف؟ ويجيب: «يعود السبب الرئيسي في كذب القادة إلى كسب تفوق استراتيجي، ولأن الدول تعيش في عالم فوضوي، حيث لا أحد يحرسها من الأخطار، وفي عالم محفوف بالمخاطر كهذا، على القادة أن يعملوا كل ما في وسعهم لحماية وبقاء دولهم». وفي زمن الرئيس الأميركي «جيمي كارتر» صرح «جودي باول» السكرتير الإعلامي أنه «تحت بعض الظروف، ليس للدولة الحق في أن تكذب فقط، بل يصبح الكذب واجباً إيجابياً»!
أنواع الكذب في أرشيف العلاقات الدولية كثيرة، يُعدد منها الباحث تسعة أنواع، فقد يبالغ القادة في تصوير قدرات دولهم بقصد ردع العدو أو حتى إخضاعه، فعلى سبيل المثال، كذب هتلر بشأن قدرات جيشه في الثلاثينيات، إذ حاول تضخيم قوة الدفاع الألمانية - لتثبيط همم بريطانيا وفرنسا في التدخل لعرقلة إعادة تسليح ألمانيا. وأطلق «جوزيف ستالين» كذبة عادت عليه بأوخم العواقب. فقد قام بعملية التطهير الشنيعة للجيش الأحمر السوفييتي، مما أثر سلباً في قدراته القتالية، وخشية منه أن ترتد هذه التصفية على هيبة الجيش الروسي، مما يحفز الألمان ويحرك جيشهم على بلاده، أطلق ستالين وضباطه الدعاية الكاذبة بأن الجيش السوفييتي قوة هائلة خارقة، وكانت كارثة الاكتساح الألماني لروسيا الذي كاد يحتل موسكو وليننجراد. لأن الأعداء كانوا يعرفون الحقيقة، وقد يكون الكذب في اتجاه معاكس، أي أن يكذب القائد للتقليل من قدرات جيشه تحاشياً لاستفزاز الخصم، حيث عمد الألمان في أواخر القرن التاسع عشر إلى شن حملة معاكسة لخداع الإنجليز، فيما كانت ألمانيا بصدد بناء أسطول بحري لمنع تفوق الأسطول البريطاني.
وقد كذبت إسرائيل على الولايات المتحدة الأميركية في الستينيات عن مشروعها النووي الناشئ خوفاً من أن تجبر واشنطن الدولة اليهودية على إيقاف ذلك المشروع إذا عرفت حقيقة ما كان يجري في مفاعل ديمونا النووي. وقد يسعى القادة إلى الكذب لكي يستفزوا دولة أخرى فتهاجمهم أو تهاجم غيرهم فيخدم هذا الهجوم مخططاتها، كما فعل بسمارك قبيل الحرب البروسية- الإسبانية عام 1870، عندما سعى إلى تنصيب أمير من «بروسيا» على عرش الحكم في إسبانيا، مدركاً أن ذلك سيثير غضباً عارماً في فرنسا.
وربما كان إطلاق الأكاذيب عملية سهلة على الصعيد السياسي بالنسبة لبعض الأنظمة، لأن «الكذب العمد» صعب الإثبات أحياناً.. كما الرشوة.
فما الكذب؟ وهل هو التلفيق والتكتم؟ أم أن «الخداع» يشمل كل ذلك ولكن ما هو الصدق؟
قول الصدق «هو أن يعرض الفرد الحقائق على أتم وجه وبطريقة مباشرة وأمينة». ولكن ألا يمكن حتى للإنسان الصادق أن يهمل دون قصد جوانب مهمة مما يحدد ويصف؟
«الخديعة»، يقول المؤلف: «هي أن يتخذ الفرد بطريقة مقصودة خطوات متعمدة لمنع الآخرين من معرفة الحقيقة كاملة، كما يفهمها هو، بخصوص أمر محدد، أما الكذب فهو فعل مخطط لخداع جمهور معين».
ويمضي المؤلف مشرحاً الخديعة والكذب فيقول إن «التلفيق هو حين يروي شخص ما حكاية يركز فيها على أحداث معينة ويربط بعضها ببعض بطريقة تصب في مصلحته، بينما يقلل من أهمية حقائق أخرى أو يتجاهلها. فالقصة المروية هنا مشوهة لكنها ليست كذبة».
وقد قال لاعب «جولف» أميركي ذات مرة في تعزيز هذا المعنى من خبرته وتجاربه، «تعلمت أنه بإمكانك دائماً أن تقول الحقيقة، ولكنك لست ملزماً بقول الحقيقة كلها».
وتشترط نقابة المحامين الأميركية على سبيل المثال، في لائحتها السلوكية أنه «من غير المسموح للمحامي أن يدلي عن علم ببيان كاذب أمام المحكمة»، أما التلفيق، فليس مسموحاً به فقط، بل إن المحامين يعتمدونه بشكل روتيني لمصلحة موكليهم».
وما الذي قد يحدث عندما يستغل بعض دهاة الدبلوماسية والقانون هذا التنوع في التعريف لتبرير خطوات إعلامية أو تصريحات من نوع ما؟
لكل قضية أو مشكلة، كما يرى البعض، ثلاثة جوانب، الجانب الذي تراه أنت، والجانب الذي أراه أنا.. و«الحقيقة»! فقد نرى كلانا، قصداً أو دون قصد، جوانب فقط منها. وقد يمتد الجدل حتى إلى مشاكل دولية عويصة كالانفجار السكاني والتلوث البيئي وتنازع الدول الثرية والفقيرة وغيرها. فترى البلدان المتقدمة في تكاثر السكان في البلدان النامية مشكلة دولية خانقة، ولا يرى بعض المسلمين في هذا القلق إلا استفزازاً وتشهيراً بالعالم الإسلامي مثلاً، بينما يستمر التكاثر ويتضاعف السكان ويعم الفقر وسط الجدل والشد والجذب.
من أنواع الأكاذيب العالمية، يقول «ميرشايمر»، أكاذيب استراتيجية أو ذات بعد قومي لإثارة الذعر أو بهدف صناعة الأساطير حول الماضي والمستقبل أو تغطية الفشل الاقتصادي والوعود البراقة، والديكتاتوريات على وجه الخصوص، لا تضر الحاضر فحسب، بل وتزعزع محاولات بناء المستقبل، ولهذا اشتهر وزير الدعاية النازي جوبلز بقوله: «اكذب.. اكذب.. فسيصدقك الناس في النهاية»!