جريدة الجرائد

انقلاب على السلطة الرابعة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

 عادل درويش  

عندما أصدرت إليزابيث ماليت بائعة الكتب، وصاحبة المطبعة في فليت ستريت «ذا ديلي كورانت» أول صحيفة يومية في بريطانيا في 1702، انزعج كبار الساسة واللوردات، واعتبروها تهديدًا للمملكة... فانتشار الصحافة اليومية مملوءة بأخبار الساسة وما يدور في البرلمان، وإتاحة الفرصة لعامة الشعب للاطلاع على أمور لا يفهمون فيها، وأكبر مما تستوعبه عقولهم ستكون له أبعاد لا يحمد عقباها.
هل نعيش اليوم عصر حرية الصحافة بشكل غير مسبوق، حيث لها وجود في البرلمان وتخضع الحكومة للمحاسبة، وتفضح تجاوزات تؤدي لاستقالة وزراء؟
الصحافة اليوم تواجه أكبر تحدٍ منذ خرجت «ذا كورانت» من مطبعة المدام ماليت.
كل الصحافيين (باستثناء القلة) أعلنوا التعبئة في معركة حياة أو موت لحرية فليت ستريت، أقدم وأشهر شارع صحافة في العالم... وأكثر صحافة العالم جرأة في تحقيقاتها، وتحدياتها.. صحافة وصفها رئيس الوزراء الأسبق توني بلير بـ«الوحش البري غير القابل للترويض» في دفاعه عن حريتها، رغم أنه من أكثر المتلقين لسياطها اللاذعة في كل مرة يفتح فيها صحيفته اليومية.
بلا صحافة حرة يا سادة... لا توجد ديمقراطية... حتى في أم البرلمانات وأعرقها، مهما كانت قوة ويقظة نواب البرلمان، فإن الحكومة تصبح حكومة، لأن لها أغلبية المقاعد، ولن تصوت ضد نفسها.
الشعب يجب أن يكون له عين على البرلمان... إنها السلطة الرابعة... التعبير الذي أطلقه النائب ادمدوند بيرك عام 1787، مشيرًا إلى منصة الصحافيين أثناء مناقشة في مجلس العموم في وستمنستر.
لكن يبدو أن عقلية سادة القرن الثامن عشر لا تزال سائدة لدى بعض الساسة، وتيار من المشاهير وأصحاب النفوذ، وعدد من مثقفي اليسار يريد احتكار تعريف «ما هو الصالح العام» وهو في نظرهم ما تقرره الـ«غارديان» التي تطبع أقل من 130 ألف نسخة، ولا يحق، في نظر المثقفين، للصحف التي يوزع أقلها عشرة أضعاف الـ«غارديان» (وبعضها 25 ضعفًا توزيع الـ«غارديان») أن يكون لقرائها من عامة الشعب أن يقرروا ما هو الصالح العام... عقلية لوردات القرن الثامن عشر التي ناضل الصحافيون والديمقراطيون ثلاثمائة عام لتغييرها.
لا توجد في بريطانيا قوانين لتنظيم الصحافة، ولا يحتاج إصدار صحيفة إلى إذن من أحد أو تصريح. القوانين العادية تنظم حياة الناس وهي جزء من الضوابط والتوازنات. البرلمان يصدر القوانين (بعضها قدمته الحكومة، والبعض المعارضة وقوانين أخرى يقدمها العضو كمقترحه الخاص). قضاء مستقل لا يصدر القوانين وإنما يفسر تطبيقها، بوليس مستقل عن الحكومة تحكمه مفوضيات منتخبة محليًا. القاضي مثل الميسترور أو الحكم بين المحامين، والقرار لمحلفين يمثلون الشعب... إذا خرق الصحافي القانون يواجه القضاء بشكوى من المتضرر بقوانين كحماية الخصوصية، وحماية الأطفال، والقذف والتشهير والإضرار بالسمعة أو بالرزق والتجارة.
في عام 2008 طلب صحافيون من إدارة البرلمان فتح سجلات المصاريف الإضافية التي يتلقاها النواب (كالتنقل والمسكن الإضافي والسفر)، إضافة إلى المرتبات، باعتبارهم موظفين عند الشعب وضرائبه تدفع مصاريفهم. تمنعت الإدارة بحجة الحساسية. التجأ الصحافيون للجنة قضائية متخصصة في قانون حرية المعلومات فحكمت لصالح الصحافة. وأدى استئناف إدارة البرلمان الحكم إلى منحها مهلة حتى صيف 2009 لفهرسة ملفات المصاريف وحجب معلومات حساسة. لكن «ديسك» عليه كل مصاريف النواب وصل إلى الـ«ديلي تلغراف»، يبين جشعًا، ومغالاة، ونفقات لا علاقة لها بعمل البرلمان.
حاولت إدارة البرلمان استصدار أمر قضائي، لأن الصحيفة حصلت على ممتلكات مسروقة من البرلمان. وتلقي أو شراء أو إخفاء ممتلكات مسروقة جريمة يعاقب عليها القانون. لكن المحكمة العليا حكمت لصالح الصحيفة التي جادل محاموها بأن «الصالح العام» (وهو هنا كشف إهدار أموال الشعب الذي تمول ضرائبه إدارة البرلمان) يبرر ارتكاب مخالفة قانونية.
كثير من الساسة (لا كلهم) اعتبروها سابقة خطيرة. وقد سمعنا كصحافيين بآذاننا عبارات، في جوهرها تعكس عقلية لوردات وساسة القرن الثامن عشر، عندما أصابهم الهلع من فكرة وصول تفاصيل الحياة السياسية وشؤونهم إلى العامة عن طريق الصحف.
لا أقول نحن - الصحافيين - لا نخطئ... ولا أعرف صحافيًا واحدًا - بمن فيهم كاتب هذه السطور - لم تسول له نفسه وضع أذنه وراء باب دبلوماسي، أو قراءة خاطفة (واليوم الموبايل بالكاميرا يسهلها) لوثيقة أو تقرير يقرأه مسؤول في قطار، وغيرها، خصوصًا في مناخ سياسي هنا في بريطانيا يعتبر السرية والتكتم هو المعتاد، والتصريحات هي الاستثناء.
لماذا يرتكب الصحافي أحيانًا ما يمنع أولاده من ممارسته؟ لأن أهم تعريف للخبر هو ما قاله اللورد نورثكليف (1865 - 1922) من أساطين الصحافة مؤسس الـ«ديلي ميل» والـ«ديلي ميرور»: «الخبر هو ما يريد أحدهم طمسه، والباقي غير ذلك مجرد إعلانات».
عقب فضائح التنصت على رسائل المشاهير الصوتية قبل خمسة أعوام واستجابة لضغوط الرأي العام، أمر ديفيد كاميرون رئيس الوزراء وقتها بإجراء تحقيق قضائي مستقل ترأسه اللورد ليفسون، في أخلاقيات المهنة وممارسات الصحافة.
زامن التحقيق اعتقال البوليس 23 صحافيًا، وقاضتهم النيابة تحت خرق قوانين الخصوصية والتنصت ومحاولة رشوة مسؤولين. تحقيق ليفسون والقضايا تكلفت قرابة أربعين مليون جنيه إسترليني من المال العام. وجد المحلفون والقضاء جميع الصحافيين براءة في 22 قضية، وصحافي واحد وجد مذنبًا وقضيته الآن منظورة أمام الاستئناف.
ليفسون قدم توصيات باستمرار استقلالية الصحافة وإيجاد وسيلة لتنظيم تنفسها. الصحافة لها مجلس مستقل تشترك فيه كل الصحف، وله قواعد للحفاظ على أخلاقيات المهنة ويحقق في شكاوى مقدمة وتجبر الصحف على طبع اعتذار ودفع تعويضات.
أنصار الديمقراطية يقولون إنه لا حياة لها دون استقلالية السلطة الرابعة، خصوصًا أنه لا توجد مخالفة واحدة في تحقيق ليفسون لا تخضع للقوانين المدنية والجنائية القائمة.
«لوبي» كونه مجموعة من المشاهير تفوق ثروة بعضهم ميزانيات دول كاملة من العالم الثالث، يضغطون على الحكومة لابتزاز الصحف لتقبل الالتحاق بمنظمة بديلة تخضع للحكومة ويمولها أحد الأثرياء من اللوبي نفسه... الحكومة لم تقرر بعد.
وزيرة الثقافة كارين برادلي تجري استطلاعًا بين الشعب حول البند 40 في قانون المحاكم الجنائية يلزم الصحيفة بدفع أتعاب المحاماة ومصاريف القضاء للطرفين، أي من يشاكيهم حتى ولو خسر القضية. ولأن الصحف المحلية الصغيرة الفقيرة قد تفلس إذا قاضاها المجلس البلدي، أو مقاول في حالة كشف المخالفات، فإنها ستفرض على نفسها رقابة ذاتية لم يعرفها أي صحافي بريطاني لأكثر من ثلاثة قرون.

 

 

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف