العنعنة كدٌّ... لا عنعنة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
سمير عطا الله
تكراراً، ما أسهل الظلم، خصوصاً المجّاني منه. وأعتقد أن أحد عناوين الظلم في الأدب والتاريخ هو ما سمّي العنعنة. أي النقل. وهذا يعني أن الباحثين نقلوا من دون جهد، كأنهم أمام آلة ناسخة. ولا بدَّ أن قلَّتهم كانت كذلك. لكن كبارهم ومجتهديهم لم يكتفوا بالتربع على الحصائر، يُمْلون أو ينسخون.
ولعل أجمل ما قرأت في الدفاع عن هؤلاء السادة ما كتبه الأستاذ عباس حسن (كلية دار العلوم، القاهرة) يوم تساءل «وهل أدل على ذلك من المراجع الكبيرة التي تركوها والنفائس العلمية والأدبية التي توج بها الخزائن (...) وتعترف بنصيبهم الأكمل من الدقة والتحري والضبط والأمانة ووفرة التحصيل؟».
ويعطي الأستاذ حسن مثالاً على ما يثبت كتاب «المخصص» لابن سيده قائلاً:
«قد ألّفه صاحبه وهو ضرير، سلبته الأيام أكرم حواسه، وأنفس ما يحتاج إليه العلماء الباحثون. ولم يمنعه العمى القهّار أن يُخرج للناس كتباً جليلة، منها (المخصص) في سبعة عشر جزءاً، في كل جزء قرابة ثلاثمائة صفحة، بها من أصول اللغة وخصائصها، ونواحي اتصالها بالحياة ما جعله قبلة اللغويين في العصور المختلفة، ولا سيما عصرنا الزاهي بألوان الحضارة المستحدثة، وأفانين الابتكار المتجدد، حيث تشتد الحاجة إلى أسماء لمسمياتها، ودلائل لمدلولاتها، وأنّى لنا بها إلا عند (المخصص) وأمثاله، فمنه العون، وإليه المفزَع.
إنني لا أرى لأولئك العلماء بيننا أنداداً، ولا أعرف لهم في أيامنا قرناء. اللهم إلا طائفة يسيرة من رجال العلم الحديث في البلاد الغربية ونحوها، وهبوا أنفسهم له، وافتدوه بالنفيسين، وماثلوا علماءنا القدامى في الصبر، والدأب، والتضحية، فكان لهم ما أرادوا، وكان للعالم على أيديهم هذه المدنية التي لم تشهدها الأرض من قبل».
ما العنعنة في نهاية المطاف؟ إنها «طريقية». وهي طريقية حفظت التراث والأدب والتاريخ في مجمل فصوله وكامل أبوابه، من الأحداث إلى النوادر. بكلام آخر أو أدق، المُعنعنون هم المؤرخون والباحثون والمنقبون والمدققون. ولن نستطيع أن نعرف كيف استطاع هؤلاء، في عصر قل فيه الورق والحبر، وعزَّت فيه وسائل النقل والاتصال، وندر أهل العلم المراجع، أن يجمعوا لنا شيئاً مثل «الأغاني» أو «لسان العرب»، أو التحف التي تصعب قراءتها، فكيف جمعها وكتابتها.