المغرب وإصلاح الحياة السياسية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عبدالحق عزوزي
ألقى العاهل المغربي الملك محمد السادس، يوم الجمعة الماضي بمناسبة ترؤسه لافتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية من الولاية التشريعية العاشرة خطاباً توجيهياً للبرلمانيين المغاربة، وخريطة طريق لكل الفاعلين السياسيين في مجالات عدة، ولعل أهمها ضرورة إصلاح ما أعوج في مسيرة الحياة السياسية بالمغرب.
ولا غرو أن من يلاحظ أسباب الوقائع والأحوال في كل المجالات العامة في البلدان فإنه سيجد كلمة السياسة محصورة في ثلاثة اتجاهات لا أكثر، وهي التي جاءت بها المدرسة الأنجلوساكسونية وسطرها فحول العلوم السياسية وجمعوها في كتب معتمدة: فهم يميزون بين السياسي (polity) : أي السلطة السياسية، حكومة الناخبين داخل المجال السياسي العام، ومجموعة من الميكانيزمات التي تبلور وحدة وديمومة الحقل الاجتماعي. ولعالم الاجتماع تالكوت بارسونز تعريف شامل لذلك: «إن كل شأن يعتبر سياسياً عندما يهتم بتنظيم وتعبئة الموارد الضرورية لإنجاز أهداف المجموعة البشرية». ثم هناك (politics) أي السياسة: فهي الحياة السياسية، حلبة الصراح التي يتبارز داخلها الفاعلون السياسيون ليس بالأيدي والشعارات الرنانة ولكن بالبرامج السياسية لتصل بعض المجموعات الحزبية والسياسية إلى سدة الحكم. وأخيراً هناك كلمة policy أي سياسة: فهو الفعل السياسي، وخطة الطريق الدالة على وجود السلطة السياسية، والتي تخلق مجموعة من القرارات والعمليات المحسوسة ذات الصبغة العامة أو القطاعية.
هذا إذن كل ما يمكن أن يحصر كلمة السياسة، وهي تفصيلات دقيقة من أجاد فهمها واستعمالها في بناء الدول والمؤسسات أوصلها إلى بر الأمان، ومن لم يفهمها وذهل عما أحالته الأيام من الأحوال، واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال، كما وقع للإخوة الليبيين بعد مقتل القذافي، فإن المجال السياسي العام قد يصل إلى متاهات خطيرة جداً، فبعض هؤلاء الإخوة الليبيين جسدوا السياسة في صراعات لا تستقيم وطبقوا صوراً لها قد تجردت عن موادها، وصفاحاً انتضيت من أغمادها، وتطبيقات أقرب للجهل بطارفها وتلادها، بتعبيرات ابن خلدون، فكانت مسيرة لم تعلم أصولها في العلوم السياسية وأنواع لم تعتبر أجناسها ولا تحققت فصولها فكانت الكارثة في ليبيا منذ أزيد من ست سنوات. وما زال الفاعلون في البلد يبحثون عن أسباب تزاحم المشاكل وتعاقبها باحثين عن المقنع في تباينها أو تناسبها، مع العلم أن الحلول موجودة في كتب العلوم السياسية، وهي علوم شبيهة بالرياضيات والفيزياء، من استوعبها وطبقها قام البلد على أصول لا تحور ولا تبور، ومن لم يستبطنها ولم ينفذها بدقة كانت الداهية العظمى التي ليس لها من دون الله كاشفة.
وبرجوعنا إلى الواقع المغربي، فإن أي متضلع في التاريخ والعلوم السياسية والسوسيولوجيا سيؤكد لك أن السياسة politics في تاريخ المغرب المعاصر هي أمر قائم على مبدأ التضامن الديني والمدني للاجتماع الإنساني والسياسي، حيث منح السلطة فيه مضموناً على درجة من الحداثة عميقة، وجعل من السلطة سلطة عمومية معروضة للتداول وتمتنع على الاحتكار والاستئثار تحت أي ظرف من الظروف... فالمغرب هو الدولة المغاربية الوحيدة التي منعت منذ الاستقلال نظام الحزب الواحد، ولم ينتمِ عاهل البلاد إلى أي حزب سياسي لأن ذلك كان سيخالف محددات الشرعية القائمة في هذا البلد والمبنية على رباط تاريخي بين العاهل والشعب، كما أم الملكية كانت ولا تزال قوة متكيفة ومنفتحة وقادرة على دفع منظومة «التعاقد» و«المواطنة» و«الإجماع» و«التعاقد» إلى الأمام دون أي تهييج ولا تثوير مجتمعي وكيفما كانت نوعية الفاعلين السياسيين المتواجدين داخل حلبة الصراع السياسي، ولهذا نفهم طبيعة الاستثناء المغربي في المخاض السياسي الكبير الذي عرفته مناطق مغاربية وعربية مجاورة.
ولكن المشكل اليوم في المغرب يكمن لا محالة في تعريفنا السابق للسياسة، أي الحياة السياسية وحلبة الصراع التي تتبارز داخلها الأطياف السياسية ليس بالأيدي والأرجل ولكن بالبرامج الواقعية، وهذه البرامج الموضوعية والواقعية هي التي أوصلت بعض الدول الديمقراطية إلى ما وصلت إليه اليوم، وعندما تكون ضعيفة أو منعدمة فإن وجود الأحزاب لا يفيد، وتفشل في تأطير المواطنين وتحقيق التنمية، وهو ما جعل العاهل المغربي يدعو في خطابه إلى التحلي بالموضوعية، وتسمية الأمور بمسمياتها، دون مجاملة أو تنميق، واعتماد حلول مبتكرة وشجاعة، حتى وإن اقتضى الأمر الخروج عن الطرق المعتادة أو إحداث تطوير سياسي.