جريدة الجرائد

العودة للإمبراطورية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

 السيد ولد أباه

 من الواضح أن الأزمة الكتالونية في طور التصاعد بعد إعلان حكومة مدريد تعليق الحكم الذاتي في هذه المنطقة التي اختارت الانفصال عن الدولة الإسبانية، بينما وقف عموم الدول الأوروبية ضد المشروع الانفصالي الكتالوني الذي من شأنه في حال النجاح أن ينتقل إلى مناطق عديدة في القارة تتشابه أوضاعها مع الإقليم الإسباني المتمرد.

وعلى رغم هذه التطورات، فقد أصبح من الجلي أن الدولة الوطنية في أوروبا وغيرها تعاني من مصاعب حقيقية في إدارة تنوعها الإقليمي والقومي من منظور فكرة السيادة التي تتأسس عليها بما تقوم عليه هذه الفكرة من استقطاب عضوي بين اعتبارات سيادة الشعب واعتبارات الدولة. فالقوميات الساعية للانفصال استندت إلى حقوق الشعوب في تقرير مصيرها والتعبير عن هويتها في كيان سياسي، يجسدها انطلاقاً من مبدأ الدولة القومية الذي هو مقوم الهندسة السياسية الحديثة، في حين تشبثت الحكومات المركزية باعتبارات السيادة القانونية للدولة التي تحميها من التفكك، وتضمن لها الاعتراف الخارجي.

والمشكل الكبير المطروح هنا هو أن الدول الغربية الكبرى سبق لها أن تبنت المشاريع الانفصالية للمجموعات القومية في الاتحاد السوفييتي السابق وفي أوروبا الشرقية والبلقان وفي مناطق من أفريقيا (أرتيريا وجنوب السودان)، وشجعت عملياً قيام كيان كردي منفصل عن الدولة العراقية، فماذا بيدها اليوم في مواجهة تمدد المسار الانفصالي في أوروبا؟

ليس من همنا الرجوع إلى سياق نشأة الدولة القومية في مقابل النموذج الإمبراطوري الكلاسيكي الذي اعتبر قمعياً واستبدادياً، وإنما حسبنا الإشارة إلى أن هذه الدولة ارتبطت في نشأتها بالملكيات الشمولية الإطلاقية التي أسست الأمم الأوروبية الحديثة وبلورت فكرة السيادة في دلالتها الحديثة، أي التطابق بين إطار الحكم السياسي للمجموعة والمجال الإقليمي الذي تعيش فيه هذه المجموعة من خلال مدونة قانونية تضبط نمط الحكم وآلياته.

إن هذا التحول ارتبط كما هو معروف بحركية استقلال الدول الأوروبية الجديدة عن المنظومة الإمبراطورية المتداعية وعن السلطة الروحية للكنيسة، كما ارتبط بفكرة «وحدة الجسم السياسي» التي بلورها فلاسفة العصور الحديثة (من جان بودين ومكيافيلي إلى هوبز وروسو) وتعني تماهي الحاكم والمحكوم، أي قدرة الدولة على تجسيد الجسم الاجتماعي والتعبير عنه.

ولقد بيّن الفيلسوف المعروف «ميشال فوكو» أن ميلاد العقل السياسي الحديث تم من خلال الانتقال من مقولة السيادة الخارجية المطلقة (أي التمايز الكلي بين الحاكم والمحكوم حتى في الأصل) إلى مقولة تدبير السكان وإدارة نمط عيشهم، بما يعني الانتقال من مركزية الإقليم في الحكم السياسي إلى مركزية القاعدة البشرية وتحول السياسة إلى نمط من السلطة الحيوية التي لها محالها الإقليمي المحدد قانونياً ولا يجوز الخروج عن حدوده.

بيد أن المشكلة الكبرى التي واجهت هذا التحول الذي تحدث عنه فوكو هو أن الدولة الوطنية السيادية التي تبنت فكرة سيادة الأمة منذ «روسو»، وإن طورت آليات فعالة ومستقرة للتعايش الداخلي، فإنها حدته بحدود المنظور القومي أي الهوية المشتركة للأمة، سواء نظرت للأمة بالدلالة العرقية الثقافية (النموذج الألماني) أو بالدلالة الجمهورية المركزية (النموذج الفرنسي).

ذلك ما انتبهت إليه «حنة أرندت» في نقدها للدولة القومية الأوروبية التي اتهمتها بأنها وإن اعتمدت المسلك الديمقراطي إلا أنها حصرته في دلالة الشبيه المماثل فأقصت منه المخالف والغريب الخارج عن حدود المواطَنة، متوقعة أن يفشل هذا النموذج في إدارة المجتمعات المتنوعة قومياً وثقافياً كما هو جل المجتمعات الأوروبية.

ذلك ما نشهده اليوم بوضوح نتيجة للتحول المتدرج الذي عرفته المنظومة الأوروبية في مشروعها الاندماجي الذي عطل عملياً العديد من اعتبارات السيادة الوطنية فولد نقمة ملموسة عبرت عنها الانتخابات الأخيرة التي صعدت فيها التيارات المناوئة للمشروع الاتحادي الأوروبي، كما عبر عنها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وليست الحركة الانفصالية في كتالونيا وغيرها سوى مظهر لهذا التحول الذي من الطبيعي أن يتركز في البلدان ذات النظام الفيدرالي أو شبه الفيدرالي.

ماذا لو كان الحل هو العودة إلى نمط جديد من آليات الحكم الإمبراطوري الكلاسيكي التي طورت مفهوماً مغايراً للسيادة يفصل بين دائرة الولاء للسلطة المركزية الذي يكون أحياناً مجرد ولاء رمزي ودائرة الحكم السياسي الذي يضمن حقوقاً سيادية خصوصية ضمن المجالات الإقليمية المتمايزة دون أن يفرض التماهي بين الدولة وهويتها القومية؟

في السنوات الأخيرة، ظهرت أعمال تاريخية جديدة تعيد النظر في فكرة القطيعة التاريخية بين الدولة الإمبراطورية «المتجاوزة» والدولة القومية الحديثة، موجهة النظر إلى إمكانيات الاستفادة من تركة النموذج الإمبراطوري في معالجة اختلالات الدولة القومية السيادية المنهكة في الوقت الذي يشهد فيه العالم تشكل صيغة جديدة من «الإمبراطورية» لابد من تصور أشكالها التدبيرية والحكمية الناجعة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف