فاطمة الجزائرية التي تمنت أن ترى دبي!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سليمان جودة
في أول مايو (أيار) من هذا العام، كانت الواقعة حديث الجزائر كلها، رغم أن البلد وقتها كان منشغلاً بانتخابات البرلمان التي كانت ستجري في الرابع من الشهر ذاته!
وكانت البطلة في الواقعة فتاة جزائرية اسمها فاطمة غولام، وكان عمرها 17 عاماً، وكانت قد استقلت سيارة من منطقة تعيش فيها على أطراف الجزائر في اتجاه العاصمة!
كانت فاطمة تريد اللحاق بالتصفيات النهائية في سباق تحدي القراءة، الذي دعا إليه الشيخ محمد بن راشد حاكم دبي، من خلال وزارة التربية والتعليم في دولة الإمارات التي يرأس حكومتها أيضاً.. وقد أراد للسباق أن يكون عربياً، لا إماراتياً ولا خليجياً، فدعا كل شاب عربي وكل شابة عربية إلى المشاركة فيه.
وكانت المفاجأة أن الذين شاركوا في سباق هذا العام سبعة ملايين عربي!
وليس لهذا من معنى سوى أن الكلمة المكتوبة لا تزال موجودة رغم كل شيء، ولا يزال وجودها له قوة، ولا تزال قادرة على اجتذاب جمهورها، ولا تزال حية في عصر سادت فيه الفضائيات، وشاعت فيه الإنترنت، وانتشرت فيه مواقع التواصل الاجتماعي، وراحت تهيمن على العقول كما لم يهيمن عليها شيء من قبل.. لا يزال للكلمة المنقوشة على الورق، رغم هذا كله، مذاق يعرفه كل محب للحرف المكتوب!
ولأمر ما، بدت لي فاطمة الجزائرية تجسيداً لهذا المعنى على أفضل ما يكون التجسيد، إذا ما تعلقت المسألة بالمعاني العالية المتعلقة بالتكوين الثقافي للإنسان، فكل ما كانت فاطمة تريده هو أن تلحق بتصفيات المسابقة في الجزائر العاصمة، وكل ما كانت تطمح إليه هو أن تكون صاحبة نصيب في الفوز النهائي، وكانت قد احتاطت لذلك كله منذ وقت مبكر، وغادرت بيتها وودعت أسرتها، على أمل أن تعود في آخر السباق وفي يدها جائزة!
وكانت سيارتها تنهب الطريق نهباً، وكانت السيارة كلما قطعت عدة كيلومترات، تطلعت فاطمة إلى ساعة يدها في توتر لم تكن تستطيع أن تخفيه، ولم لا وهي على موعد تهيأت له منذ البداية، وقطعت في الطريق إليه شوطاً وراء شوط؟! ولم لا والسباق قد جعل من كلمة التحدي عنواناً يدل عليه؟!
وبدت ملامح الجزائر العاصمة على مرمى البصر، وتبدّت معالمها في عمق الأفق من بعيد، وكانت الفتاة من جانبها قد استبد بها القلق، وكانت تخشى أن يفوتها موعدها الذي قطعت إليه مئات الكيلومترات. كانت تعرف أن طفلاً جزائرياً في سن السابعة قد فاز في دورة سابقة من دورات السباق، وكانت تريد أن تثبت لنفسها، ولغيرها، أن البنت مثل الولد، وأنها أحياناً تتفوق على الولد.
وفي لحظة، انقلبت السيارة، وألقيت فاطمة على جانب الطريق، وباءت كل محاولات إنقاذ حياتها بالفشل، وماتت وفي نفسها شيء من الحرف المكتوب، كما كان حكيم من حكماء العرب القدامى قد بقي يبحث مدى حياته في أصل كلمة «حتى».. حتى فارق الدنيا وفي نفسه شيء من حتى!
ماتت فاطمة، وفي نفسها شيء من سباق الكلمة.. ماتت بعد أن كانت قد قطعت 18 ساعة بالسيارة في اتجاه هدف ظلت تطارده.. ماتت دون أن تدري أن الموت كان من وراء السباق يطاردها هي!
ومن يعرف، ربما لو عاشت لكانت قد تسلمت جائزتها من بين جوائز شهدت دبي توزيعها على الفائزين قبل أيام.. من يعرف؟!
وحين بلغ نبأ رحيلها الشيخ محمد بن راشد، أمر بتجهيز عشر مكتبات باسمها في الجزائر، وقال عبارة تمنيت لو أن أسرة فاطمة قد نقشتها على قبرها؛ قال: «كما أن للكلمة قراء، فإن لها شهداء»!
وكانت البنت شهيدة القراءة بحق! وكانت الطريقة التي لقيت ربها بها تقول إن لله عباداً إذا أرادوا أراد، وإن الموت وحده هو الذي يحول بينهم وبين ما يريدون.. لقد عاشت تتمنى أن ترى دبي، وماتت وهي تجري في طريق العاصمة على أمل أن تراها بعد العاصمة في آخر السباق!
وعندما يلتحق سبعة ملايين عربي بسباق يتحدى بالقراءة وحدها كل شيء آخر يمكن أن ينشغل به الشباب، فلا بد أننا أمام مؤشر يقول إن عادة القراءة التي راهن كثيرون على أنها ذهبت وانقضت، لا تزال كامنة في خلايا الجسد العربي الناشئ، وإن على الذين راهنوا على انقضاء عصر الكتاب أن يراجعوا أنفسهم، وأن ينتبهوا إلى أن الكتاب لم يتراجع في بلاد أخرى عرفت كل ما هو حديث قبلنا، فكيف يتراجع ويخسر أرضه عندنا؟!
فأنت لا تصعد قطاراً في أي عاصمة أوروبية إلا ويكون الشيء اللافت منذ النظرة الأولى أن كل جالس على مقعده قد وضع سماعة الموسيقى في إحدى أذنيه، ثم بسط الكتاب مفتوحاً بين يديه، فلا يعيده إلى حقيبته، ولا ينشغل عنه، إلا إذا قام إلى محطة النزول!
إنه مشهد متكرر في كل عاصمة من عواصم الغرب، ويجب ألا ننسى أن سلسلة كتب «هاري بوتر»، التي كتبتها جي كي رولينغ في بريطانيا، وزعت في بلدها بالأساس، ثم في خارجه، ما يزيد على 400 مليون نسخة، وهو عدد لم يتفوق عليه إلا عدد النسخ المطبوعة من الكتاب المقدس!
ولا يمكن توزيع هذا العدد من نسخ هاري بوتر إلا في مجتمع تتأصل فيه القراءة، وتترسخ باعتبارها عادة، فتسبق كل العادات وتتقدم عليها، مهما صعد المجتمع بالعلم في أجواء السماء، ومهما حلق به في مدارات الفضاء.
وفي آخر تشكيل للحكومة في الإمارات، جاء وزير جديد لوزارة جديدة تتولى ملف العلوم المتطورة، ومعها ملف وصول أبوظبي إلى المريخ في خلال مدى زمني محدد. إنها خطوة جديدة تدعونا إلى أن نظل نتذكر أن العلم حتى ولو صعد للقمر، فبدايته لا بديل عن أن تكون من كتاب!