«وعد بلفور» ومستقبل العلاقة العربية ـ الإسرائيلية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حامد الحمو
عندما تمت مناقشة موضوع إصدار خطاب يلزم الحكومة البريطانية ببذل الجهود لتأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، في أكتوبر من عام 1917، كان هناك مُعارِض واحد لإصدار هذا الخطاب. والمفارقة الكبيرة أن هذا المُعارض في حكومة لويد جورج كان إدوين مونتاج ــــ اليهودي الوحيد في هذه الحكومة.
لم يعارض، لأنه معاد لأبناء ملّته، بل لأنه كان يعتقد أن إصدار مثل هذا الخطاب سيولّد موجة من المعاداة للسامية أو اليهودية في العالم أجمع. إضافة إلى ذلك، فإنه كان ينتمي إلى توجّه نخبوي يهودي يرى أن حل المشكلة اليهودية يكمن في اندماجهم في المجتمعات التي يعيشون فيها، مع احترام حقوقهم الدينية. وعندما تحوّل توجّه الحكومة البريطانية إلى «وعد بلفور» في 2 نوفمبر 1917، وبعد أن أعلن الوعد بتاريخ 9 نوفمبر 1917، استقبله كثير من اليهود بالترحيب. لكن معارضته لم تقتصر على إدوين مونتاج ــــ الوزير اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية، وإنما كانت هناك نخبة من اليهود البريطانيين الذين مثلهم المثقف اليهودي الكبير لوسيان ولف (1857 ــــ 1930). في المقابل، كان حاييم وايزمان ــــ أستاذ الكيمياء في جامعة مانشستر ــــ يتزعم اليهود الصهاينة الذين لعبوا دورا رئيسيا في إقناع الحكومة البريطانية من إصدار هذا الوعد.
لكن، ما الدوافع الحقيقية للحكومة البريطانية لإصدار «وعد بلفور»؟ هل كانت الحكومة البريطانية فعلا متعاطفة مع اليهود؟ هل كانت كارهة للعرب؟ الحقيقة كما يشرحها جوناثان شين، من خلال كتابه «وعد بلفور» الصادر عام 2010. وللعلم، فإن جوناثان شين نال الدكتوراه من جامعة كولومبيا في نيويورك، ويعمل حاليا أستاذاً للتاريخ في معهد جورجيا للتكنولوجيا. وإن لم أتمكن من الاطلاع على كتابه حول وعد بلفور، إلا أن بحثه حول نفس الموضوع، والذي نشره في «فورين بولسي» عام 2010 يعتبر ملخصا لكتابه. وعنوان بحثه المنشور: «كيف ساعدت معاداة السامية على خلق إسرائيل؟» يجيب عن دوافع بريطانيا من «وعد بلفور». وللإجابة عن التساؤل حول دوافع بريطانيا الحقيقية من إصدار وعد بلفور، أقتبس التالي من جوناثان شين:
«كان الهدف الرئيسي لبريطانيا عام 1917، هو أن تنتصر في الحرب، وكل الأهداف الأخرى ثانوية. لكن في نوفمبر من ذلك العام، بدا الانتصار بعيدا. فبعد ثلاث سنوات ونصف السنة من بداية الحرب، كان حلفاء بريطانيا في وضع يرثى له. فالجيش الفرنسي يعاني من التمرد، والإيطاليون هزموا هزيمة شنيعة، والجيش الروسي على أبواب الانهيار. ومع أن الولايات المتحدة انضمت للحرب كحليفة لبريطانيا في يونيو عام 1917، إلا أن قواتها لم تصل بعد. في نفس الوقت كانت ألمانيا تعد لهجوم كبير في الجهة الغربية».
وقد رأى كثير من السياسيين البريطانيين أن «اليهودية العالمية» ممثلة بالنخبة الرأسمالية منهم في العالم، كان يمكن أن تساعد بريطانيا على الانتصار. كما أنها كذلك كانت بحاجة لدعم من النخبة اليهودية المميزة في علمها مثل حاييم وايزمان، الذي اكتشف طريقة جديدة لتصنيع الإسيتون الذي تحتاجه بريطانيا لصناعة المتفجرات. وقد كان المصرفي وولتر روتشيلد والكيميائي وايزمان من المتحمّسين لتحقيق أهداف المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بازل بسويسرا عام 1897. فالعداء العميق لليهودية في المجتمعات المسيحية الأوروبية خاصة في شرقها ووسطها، شكّل وعيا يهوديا وجد ملاذه في تأسيس وطن لليهود في فلسطين. فالمذابح التي ارتكبت في حق اليهود في روسيا على مدى القرن التاسع عشر، خاصة في عام 1881، جعلت من المثقف اليهودي الروسي حاييم وايزمان أن يكرس حياته لتحقيق الهروب من أوروبا المسيحية إلى فلسطين. فالبيئة السياسية والقومية للأوربيين في ذلك الوقت كانت طاردة لفكرة اندماج اليهود بالإيطاليين والألمان والفرنسيين والإنكليز. لذا، كان من الطبيعي أن تنحسر وتضعف دعوات وأفكار اليهود المثقفين مثل لوسيان ولف وإدروين مونتاج الداعية لاندماج اليهود في مجتمعاتهم الأوروبية.
هذا، وأجد نفسي متسائلا عن كيفية تشكّل الوعي لدى شخصيتين يهوديتين متشابهتين من ناحية، ومختلفتين من ناحية أخرى.
تانك الشخصيتان هما: لوسيان ولف وحاييم وايزمان. فكلاهما بريطانيان من أصول أوروبية ــــ شرقية، وكلاهما نشطان في القضية السياسية اليهودية، والاثنان ساهما في تشكيل وعيهما المذابح التي تعرّض لها اليهود الروس عام 1881. لكن لوسيان وجد أن خلاص اليهود يكمن في مجتمعات ليبرالية متفتّحة تحترم جميع الديانات، بينما وجد الثاني أن خلاص اليهود يكمن في تحويل اليهودية إلى قومية من خلال الصهيونية. هذا وعلى الرغم من تأسيس إسرائيل كدولة، فلا يمكن أن نعتبر أن خيار وازيمان كان الأفضل لليهود. فما زال في بريطانيا حوالي 300 ألف يهودي لم تغرهم إسرائيل.