الليبرالية المحافظة.. خياراً للعالم العربي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
السيد ولد أباه
بعد فشل التجارب «الاشتراكية» التي عرفتها جل الجمهوريات العربية في العقود الماضية وإخفاق مشروع «الإسلام السياسي» في نسخه المختلفة (الثورية العسكرية والانتخابية)، أصبح من الضروري التفكير جدياً في الخيار السياسي المجتمعي الذي من شأنه إنقاذ الحياة السياسية العربية من الاحتقان والجمود.
ما نراه اليوم مطروحاً هو ضرورة انتقال العالم العربي إلى نوع من الليبرالية ندعوه بـ«الليبرالية المحافظة» وهي عبارة تعود للمفكر السياسي البريطاني «مايكل أوكشت»، وتعني تجاوز التناقض الذي كثيراً ما يظن ما بين النزعة الليبرالية التقدمية والقيم التقليدية المحافظة، في سياق التحولات الواسعة التي عرفتها النظرية الليبرالية في القرن الماضي وبدايات القرن الحالي.
فإذا كانت الهوة الأيديولوجية التي كانت قائمة بين الطابع الفردي الذاتي في الليبرالية والسمة الاجتماعية في المنظور الاشتراكي الكلاسيكي قد تم تجاوزها في إطار النزعات الديمقراطية الاجتماعية التي حكمت في غالب الأحيان البلدان الأوروبية في العقود الثلاثة الأخيرة، فإن الحاجز النظري والأيديولوجي بين النظريات المحافظة والأفكار الليبرالية قابل هو أيضاً للتجاوز في الأفق ذاته.
والليبراليات في تنوعها واختلافها تلتقي في فكرتين أساسيتين هما حرية الفرد واستقلاليته من جهة ودولة القانون المنظمة للحريات الفردية من جهة أخرى، وليس في الفكرتين ما يتعارض ضرورة مع المقاربة المحافظة للشأن الاجتماعي.
صحيح أن فكرة الحرية الذاتية في النظرية الليبرالية الكلاسيكية فهمت بمعنيين هما: النظرة الذرية للأفراد، أي اعتبارهم ذرات أحادية معزولة عن بعضها بعضاً خارج أي سياق انتمائي سابق، والنظرة السلبية للدولة بصفتها مجرد آلة إجرائية تدبيرية للديناميكية الفردية الحرة.
بيد أن المفهومين تم تجاوزهما، فلم يعد بالإمكان النظر للذات الفردية خارج سياقها الثقافي والمجتمعي الذي هو إطار محدد لهويات الأشخاص في أبعادها الجماعية التي لا سبيل للتنكر لها، ومن دون الإقرار بها يؤول الأمر إلى إلغاء وإقصاء الحقوق الثقافية للمجموعات الدينية والقومية داخل النسيج الاجتماعي العام. كما أن النظرة الإجرائية الأداتية للدولة تفضي أيضاً إلى نفي وإلغاء قيم المواطنة المشتركة التي لا يمكن اختزالها في المنظور الاقتصادي النفعي للشراكة التعاقديّة.
وما تطرحه الليبرالية المحافظة هو ضرورة الربط بين قيم التحرر والفاعلية والإبداع والإنتاجية التي هي قيم ليبرالية أصيلة وثابتة وقيم الانتماء لتقليد ديني وثقافي وهويات اجتماعية صلبة يحتاج إليها الجسم السياسي للدولة الحديثة الذي لا زال في مجتمعاتنا العربية هشاً ومعرضاً للتهاوي والانهيار.
ولا يعني الأمر هنا الجمود الثقافي والاجتماعي، فالتقليد ليس بالضرورة سقفاً معيقاً وقيداً ضاغطاً، بل هو أفق للانطلاق وإطار للتأويل المتجدد وهوية متحولة نعيد صياغتها وتجديدها دون انقطاع.
ولليبرالية المحافظة اليوم عدة صيغ في العالم، بعضها سلك مسلكاً يمينياً منغلقاً كما هو شأن الليبراليات الحاكمة في بولندا وهنغاريا، وبعضها ذهب في اتجاه العودة إلى التقاليد الثقافية العميقة واستبطان القيم الليبرالية ضمنها، كما هو التوجه في روسيا والصين.
ويمكن للعالم العربي أن يبدع صيغته المناسبة من الليبرالية المحافظة، بتحول الأنظمة السياسية إلى الخيار الليبرالي الذي يكرس قيم الحرية والتعدد والتنوع والتسامح ضمن النسق الثقافي للمجتمع قابل التجدد والتطوير ضمن مرجعياته المعيارية الذاتية.
والملاحظ اليوم بوضوح هو أن الدول العربية التي تحكمها أنظمة محافظة (في الخليج العربي والمغرب والأردن) هي الأكثر استعداداً للخيار الليبرالي المحافظ، بالنظر إلى قاعدتها الاقتصادية الحيوية واستقرارها الاجتماعي، وقد اختارت منذ البداية الخيار الاقتصادي الليبرالي، في وقت راهنت فيه جل الدول العربية الأخرى على النماذج الاشتراكية المعيقة لحرية الفرد والمؤدية إلى تضخم الدولة وتحكمها بما يؤول تلقائياً إلى تقويض الديناميكية الفردية للحرية وتكريس السلطة الرقابية القمعية على المجتمع.
وإذا كان جل تلك البلدان العربية عرف منذ ثمانينيات القرن الماضي تحولاً مفروضاً من نمط التخطيط الاقتصادي المركزي إلى الخصخصة الليبرالية الفردية، كما عرف في العقدين الأخيرين أيضاً إصلاحات سياسية مفروضة للتحول من الحزبية الأحادية إلى التعددية السياسية والانتخابية، فإن الحصيلة كانت هزيلة: احتقان اجتماعي حاد ناتج عن انسحاب الدولة من وظيفتها الإدماجية الدنيا، وتعددية تنافسية من دون أفق للتناوب الديمقراطي.
الليبرالية المحافظة هي إذن الخيار المناسب للبلدان العربية التي وصلت حداً مقبولاً من النهوض التنموي، وتبنت إصلاحات ليبرالية اقتصادية ناجعة، وأخذت بمبدأ المشاركة والتسامح والانفتاح.