لا إبداع مع التطرف ولا تطرف مع الإبداع
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أحمد التيهاني
الأدباء الشباب الواعون المستقلون عن الأيديولوجيات المدمرة يقفون من التطرف والإرهاب موقف الرفض الحاد، وهذه الحدية في الرفض ناجمة عن وعي يتجاوز الخطابات السائدة
يستطيع متابع النتاج الأدبي الصادر عن الفئات الشبابية السعودية المستقلة فكريا، عبر العقدين الماضيين، أن يلحظ وجود رابط خفي بين: انتشار التطرف والإرهاب من جهة، وبروز الاتجاه الإنساني في أدب الشباب من جهة مقابلة، وذلك على الرغم من تناقض الإنسانية والإرهاب وتنافرهما وتباعدهما، فلا إنسانية في التطرف والإرهاب على الإطلاق، إلا أن وجود التطرف وأهله، ووجود الإرهاب وفاعليه بوصفه نتيجة حتمية للتطرف، ثم ما ينجم عنهما من نتائج كارثية، قد أفضى إلى ظهور اتجاه إنساني مضاد في أدب الشباب، سواء أكان شعرا أم سردا.
أزعم أن هذا الاتجاه الإنساني ناجم عن الألم الذي يشعر به هؤلاء الأدباء الشباب، نتيجة ما يرونه حولهم من التكفير، والتفسيق، والظلم باسم الدين، ثم القتل، والإرهاب والتدمير، والإخلال بأمن الأوطان، مما يعني أن ظهور المعاني الإنسانية في نتاج الأدباء الشباب يمثل ردة فعل مقصودة وعفوية في الوقت نفسه، وليست هذه المعاني آتية من كونهم اعتنقوا مذهبا فلسفيا، ثم راحوا يدافعون عن مبادئه العامة، وينشرون أفكار منظريه.
وحين أقول: «الاتجاه الإنساني»، فأنا أعني المصطلح مختارا إياه دون سواه، ومرجحا لفظة: «الاتجاه»، على لفظة: «النزعة»، السائدة عند الإنسانيين بالمعنى المذهبي الفلسفي، احترازا من أن تذهب الأذهان إلى «الإنسانية» أو «الأنسنة»، بوصفها مذهبا فلسفيا ذا تاريخ طويل، وذا تحولات مفهومية كثيرة، استقرت بقيامه على رفض قيود الكنيسة الأوروبية في بدايات عصر النهضة، مما أنتج مشكلة تعارض هذا المذهب مع الأديان، وذلك مدار بحث مستمر، وحوارات علمية مطولة، جعلتني أميل إلى مصطلح «الاتجاه الإنساني»، لأنني أمام قيم إنسانية لا تقوم على نظام فلسفي مؤسس ذي جذور، فضلا عن أنها ليست ذات تعاليم محددة.
وعليه، فأنا أقصد بالاتجاه الإنساني: تصوير قيم الخير والجمال والعفو والتسامح والحب والرحمة، والاحتجاج لها، وتحسينها، في مقابل رفض أضدادها، وتقبيحها، كالظلم، والقتل، وترويع الآمنين، وتدمير الأوطان، وإثارة الفتن، والطائفية، وتحويل الدين إلى عصا غليظة، وتقبيح فاعلي هذه الجرائم وتوجهاتهم وأهدافهم.
أما النتاج الأدبي الذي أعنيه، فهو ذلك الذي تأتي المعاني الإنسانية فيه من خلال سياقات موضوعاتية، أو ضمن إطارات فنية مضادة للتطرف والإرهاب، بمعنى أن اللوحات الفنية اللغوية التي تصور القيم الإنسانية، انعكاسات مغايرة تماما لما تنعكس عنه، برفضها مقدماته ونتائجه رفضا ذا ارتباط واضح بما واكب إنشاء النصوص من أحداث إرهابية، أو أفكار متطرفة.
ومن الثابت أن الاتجاه الإنساني بهذا المفهوم، موجود في الأدب العربي عبر عصوره كلها، وفي بيئاته جميعها، إلا أن ما يميز وجوده لدى الأدباء الشباب في السعودية عبر العقدين الأخيرين، وروده في سياقات متعلقة بأحداث إرهابية دارت في المرحلة التاريخية التي أنشئت فيها النصوص، أو بتيارات فكرية متطرفة معاصرة، أو بأحزاب سياسية ذات أيديولوجيات تُشرْعن الإرهاب، أو تبرره، أو تيسر -في أقل الأحوال- الإقدام عليه، بما تتضمنه أدبياتها من التحريض على المخالف أو المختلف، وتشويهه، سواء أكان سلطة أم فردا أم فئة، وبما تقوم عليه من أحادية متمثلة في رفض التعدديات المذهبية والفكرية رفضا لا يقف عند حدود الرفض ذاته، بل يتجاوزه إلى استعداء المذاهب الأخرى، والتحريض على أتباعها ومعتنقيها.
هؤلاء الأدباء الشباب المستقلون يعمدون كثيرا إلى ربط القيم الإنسانية بواقعهم، ذلك أنهم يشيرون في نصوصهم التي تمثل الاتجاه الإنساني إلى حدث أو قول أو فكر، مما يجعل الاتجاه الإنساني في أدبهم نتيجة مضادة للفكر الذي نتج عنه الإرهاب والقتل والتدمير، وليست مساحة هذا المقال كافية للحديث عن تجليات الاتجاه الإنساني المضاد للإرهاب والتطرف عند الأدباء الشباب، وهي لا تتسع لعرض بعض الشواهد، إلا أن المهم هو التأكيد على وجود هذا الاتجاه، لنحسن استغلاله من أجل وطننا وإنسانيتنا وأمننا ومستقبل أبنائنا وأحفادنا.
الملحوظة السابقة تبشر بأن فئة من المبدعين الشباب بعيدة عن الانجراف خلف الأفكار التي تسوغ الإرهاب، أو تقود إلى ارتكاب جرائمه، وهو ما يجعل من تشجيع الفنون الإبداعية، ودعم المبدعين، واجبا وطنيا، يتحتم أن تنهض به الدولة، يساندها في ذلك المجتمع. هؤلاء الأدباء الشباب الواعون المستقلون عن الأيديولوجيات المدمرة يقفون من التطرف والإرهاب موقف الرفض الحاد، وهذه الحدية في الرفض ناجمة عن وعي يتجاوز الخطابات السائدة، ونفوس شفيفة تحب الحياة والإنسان والوطن.
وعليه، فإن أمثال هؤلاء الشباب بعيدون عن الانجراف في أي تيارات فكرية تسوغ الإرهاب، أو تقود إلى ارتكاب جرائمه، ومحصنون من أن يحاول قادة الإرهاب أدلجتهم أو تجنيدهم، تحصينا يجعل العمل على إيجاد مئات الآلاف من أمثالهم، واجبا دينيا ووطنيا واجتماعيا وإنسانيا، لأن من أسباب هذه الحصانة التي تشي بها النصوص، أنهم منشغلون بفنونهم الإبداعية عما سواها من الأفكار المتطرفة، والأحزاب السياسية القائمة على الأدلجة، والطوائف الهادفة إلى التفتيت والشرذمة، وليس معنى ذلك غفلتهم أو نكوصهم عن المعرفة، فهم مشغولون بإبداعهم انشغال الواعين، لا انشغال الغافلين عما يدور حولهم، والدليل على وعيهم هو استثمارهم الفن الإبداعي في التعبير عن رفض الإرهاب، وكل ما يقود إليه، من: تطرف مصادر، أو تحزب مؤدلج مسيس، أو تمذهب آت من خارج الوطن بهدف التفريق بين أهله. إن تشجيع المبدعين، وفتح الأبواب أمام كل ما يمكن أن ينهض بالفنون الإبداعية على اختلاف أجناسها وأشكالها، سد منيع يحول دون وقوع الشباب في براثن خيانة دينهم ووطنهم وحياتهم وإنسانيتهم، ويحول دون استهدافهم بالأدلجة والتجنيد من قادة الفكر الحركي المتطرف ومنظريه، مما يجعل من أوجب الواجبات الوطنية العاجلة، إعداد استراتيجية وطنية شاملة لدعم المبدعين، وتيسير أسباب الاهتمام بالفنون الإبداعية، كي تتحول إلى مشروع إحلالي ضخم، يسد الفراغات، ويحتل المساحات المشغولة بخطابات محرضة حانقة، وهو المشروع الذي يتحتم أن تنهض به الدولة أولا، يساندها في ذلك المجتمع بفئاته كلها دون استثناء.